عطر زوسكيند - حين لا نشم ذواتنا
فادي عاصلة
يرى المفكر الروسي فلادمير بروب ( رائد المدرسة الشكلانية ) أن الوظيفة هي الخالقة للشخصية، وهو ما يبرر وجودها.في حين أن الفكرة الأدبية هي مجموعة المحتوى الصريح والضمني، وأمام " عطر " باتريك زوسكيندر نكون أمام عمل مضنٍ يحتاج إلى مجهود حقيقي لاستكنان القيم المضمونية التي هي بدورها أساس كل نصٍ.
بأسلوب سلسل وجميل، أبدع باتريك زوسكيند رائعته " العطر "، رواية تحكي قصة جان باتيست غرنوي عبقري الروائح، يولد في القرن الثامن عشر بذاكرة روائح مذهلة، يبدأ بتنميتها شيئاً فشيئاً، بحيث يستطيع أن يشم أبعد الروائح وأن يخزن آلافاً منها في ذاكرته، وصولاً إلى قدرته على تحليل كل أنواع العطور وعلى صناعة الأفضل منها في العالم، وهو ما جربه عند العطار بالديني، حين صنع باسمه أفضل العطور في فرنسا ليتحول بالديني إلى صفوة عطاري فرنسا.
بعدها يمضي غرنوي، حيث يعتزل الناس سبع سنين، في جبال فرنسا، معتكفاً هناك، يأكل الحشرات والأفاعي، إلا أن يعود مرة أخرى إلى الناس أشعثاً يصل شعر رأسه إلى ركبتيه، فيما تتدلى لحيته حتى سرته، حين ظنوا به أنه ليس بشراً إنما مزيج بشر ودب، أو من بقايا قبائل الشايان الهندية، لكنه ألف قصة عن اختطافه لمدة سبع سنين، حتى التقاءه المركيز الذي يطور نظرياته في العلوم، ليثبت من خلاله إحدى نظرياته التي توصله إلى شهرة علمية مميزة، من خلال نظريته غاز التعفن الرممي.
تنتهي هذه المرحلة برحيل غرنوي عن مونبلييه، ليبدأ بالعمل عند مدام أرنولفي كمساعد لعطارها دروو، ومن هناك يبدأ غرنوي مشروعه في القتل، بحيث يقوم بقتل خمس وعشرين فتاة، بذات الطريقة، كي يحتفظ بروائحهن من خلال قطعة قماش مطلية بالدهن يقوم بالصاقها بجسد الضحية، إضافة لقص شعر الضحية والاحتفاظ بملابسها، كي يقوم بتركيز زجاجات عبق رائحتها لاحقاً.
بعد خمس وعشرين عملية قتل، يتم الإمساك به، كما يتم التحرز على أدواته وأغراضه الشخصية وعلى ملابس الضحايا وأداة القتل، ليحكم بالإعدام، ولأجل هذه القضية التي تتحول إلى رأي عام، تنصب له منصة إعدام خاصة يدعى لها الجميع، إلا أنه في يوم الإعدام يتقدم بخطى ثابتة ومن خلال عطر مميز، يفتن الجموع التي تعانقه وتعتذر له، حتى أن والد ضحيته الأخيرة يرعاه ويسهر عليه.
غرنوي بدوره في النهاية يرش كل زجاجة العطر على رأسه، والتي بدورها تكفي لسحر العالم، مما يثير دهشة بين جمهرة من القتلة، الذين انجذبوا إليه كملاك بين جذب – وجزر، إلا أن الإرادة كانت تذهب بالجميع نحو ملامسته، والحصول على جزء منه، حتى مزقوه وأكلوه، لكن الغريب أن الأمر أعجبهم، لم يشعروا بتأنيب ضمير، بل بفخر وسعادة، كونهم لأول مرة يفعلون شيء نابعاً من حب.
كان اختيار الزمان – القرن الثامن عشر - موفقاً، فهو إلى جانب الطفرة المعرفية في العطور آنذاك وتحولها إلى أحد الصناعات المهمة في فرنسا، لا يمكن أيضاً تجاوز الطفرة الإنسانية بما تحمله من الثورات والحروب، ومن بحث الإنسان عن كرامته وحقوقه في أروقة باريس وبقايا الباستيل، وهو ما يتجلى في الرواية كأحداث هامشية، لأن زوسكيند كان واعياً أن العطر – بما يحيل إليه - هو المدخل الإنساني المحاكي المجرد الفاض لما تغلف.فيما الحروب فربما تكون هامش العمق الإنساني. فالمدخل الأول للدراسة هو الانسان بما هو إنسان ثم ظاهر الحرب كإحدى الهوامش أو الإفرازات المنبثقة عن توجهاته المتشكلى على خلفية مرجعية قيمية وأخلاقية.
عطر زوسكيند يحمل في جوفه دلالات وإيحاءات أخلاقية إذ يرتبط بقيم وأحكام إنسانية، " فالإنسان قبل دخوله سن المراهقة لا تصدر عنه أية رائحة " ( ص22 )، وهو بدوره ما يدفع للتساؤل " من أين ستأتي الرائحة لرضيع لا يعرف الخطيئة الجسدية ولا حتى في الحلم ؟ " ( ص22 ). لكن هذا لا ينطبق على الكبار، فالبشر ينضحون برائحة العرق والملابس، كما كانت طبقة النبلاء تنضح بالرائحة الكريهة، فيما الملك تفوح منه رائحة حيوان مفترس، ومن الملكة رائحة عنزة شمطاء ( ص8 ).
هي إذاً صياغة سيميولوجية للبنية الأخلاقية الإنسانية التي يتحرك زوسكيند في إطارها، ليتحول جان باتيست غرنوي، إلى محض مفهوم رمزي، فهو لا رائحة له، قد كان يفلح في شم كل الروائح وتصنيفها وتخزينها في ذاكرته، إلا أنه لم يستطع يوماً أن يشم ذاته. وإذا كانت الرائحة في ذهنية زوسكيند تحيل إلى بعد قيمي، فان غرنوي لم يفلح في بناء منظومة قيمية، بقدر ما كان يهدف إلى تلبية متطلبات ذاته الآنية.
إن الانزياح الجميل الذي يرمزه زوسكيند هو نقل الروائح من الذات إلى الموضوع، من حيث يغلف الذات بالجسد، والحقيقة بالرائحة، لتصير الذات رائحة، والموضوع جسداً.
لقد قتل غرنوي خمسة وعشرين فتاة، لم يسرق أو يغتصب أو يشعر بالحب والانجذاب لأي واحدة منهن، رغم أنه كان يعريهن لأخذ ملابسهن التي تسهم في صناعة العصر المبتغى، لم يفكر يوماً بالمال أو بالمناصب أو بأي شيء رغم أنه كان بمقدوره الوصول للبلاط ببساطة تامة من خلال خلطة عطر تجعل الملك نفسه يأتيه راكعاً.
لقد استطاع غرنوي أن يتجاوز بروميثيوس، من خلال تلك الشرارة الإلهية، وإذا كان تجاوزه، فلأن هذه الشرارة هو الذي زرعها بنفسه " لا اب ولا أم، ولا حتى لرب رحيم – وإنما له فقط بالذات، لقد كان حقاً رب نفسه، ورباً أكثر روعة من ذاك الذي ينفث روائح البخور في الكنائس " ( ص272 ).
وإن كان أعظم من بروميثيوس، فإنه سيبقى منقوصاً كونه " المولود دونما رائحة في أكثر أماكن العالم تخمة بالروائح الكريهة، الناشئ من القمامة والغائط والعفن، الذي تربى دون حب وعاش دون روح إنسانية دافئة ..." ( ص271 ).
سيموت غرنوي مأكولاً، وسيتلذذ المجرمون بمضغه، لا ندم، لا محاسبة، لا شعور بالحزن، لأنه ببساطة لا رائحة له، ولأنهم لأول مرة يفعلون شيئاً عن حب، فغرنوي لم يشم ذاته، لم يحب ذاته، لم تمل عليه ذاته برغبات الإنسان، كانت غريزته ذات حاسة عامودية تبدأ من الرائحة وتنتهي فيها، لا أفقية للحواس، ولا اندماج مع تفاصيل الإنسانية في بناءها.
كأننا زوسكيند من خلال هذا العالم الروائحي، ومن خلال هذه التحفة الأدبية الفريدة، يعيدنا إلى السؤال الملح دوماً : " هل للإنسان أن يفهم العالم دون أن يفهم داخله أولاً ؟ " أو ربما : ما فائدة الإنسان إن استطاع ترتيب العالم دون أن يرتب داخله ؟ فهل تفلح رواية زوسكيند في أن نشم ذواتنا، لنعيد صياغة مفاهيمنا ؟
العطر (قصة قاتل) باتريك زوسكيند، ترجمة نبيل الحفار، دار المدي للثقافة والنشر، سوريا، دمشق، الطبعة الثانية 1997، عدد الصفحات : 287.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق