السبت، 9 يوليو 2011

الوعي بين المسائلة والاستفزاز لدى المقري



الوعي بين المسائلة والاستفزاز لدى المقري



 
فادي عاصلة
أسئلة كثيرة يطرحها الكاتب والشاعر اليمني على المقرى من خلال روايته " اليهودي الحالي "، الصادرة عن دار الساقي، وإذا كان الحالي في اللهجة اليمانية يحيل إلى الجمال، فإنا أمام نص رافض مذ البداية للدلالة المتداولة في المعنى الجمعي المتعارف لدينا، ذاهباً إلى المعنى المحيل لإطار زماني ومكاني خاصين به، وإلى حيز جغرافي وثقافي، هو إذاً ضراوة الدلالة مذ البداية خاصة في ظل تراكم الإحالات السلبية للكلمة الأولى " اليهودي " في المخيال الجمعي العربي – الإسلامي.


تحكي الرواية قصة الشاب اليهودي الجميل، سالم، الذي يفتح عينيه على عشق فاطمة المسلمة، ابنة مفتي القرية، حيث تأخذه من براثن الحياة اليومية، نحو الرغد فيها، لتعلمه القراءة والكتابة ولتأخذه نحو عالم الكتب، وفي الاتجاه الآخر تمر سنين ليعلمها اللغة العبرية  ويفتح أمامها عالم كتب آخر هو عالم الثقافة العبرية، فيه سيمضيان، ليكون العشق بانتظارهما.


إن حباً ينمو بين ابنة مفتٍ في قرية ريدة في القرن السابع عشر، وبين يهودي إبن نقاش، هو محض مغامرة حقيقية، في ظل بيئة متوترة رافضة، لهذا الحب من الجانبين، لكن اليهودي الجميل سالم يهرب مع فاطمة إبنة المفتي، التي كونت من خلال قراءاتها في شتى كتب الفقه مذهباً خاصة بها، مذهب يرفض الكراهية والعنف، مذهب يجيز الزواج بين أتباع الملل والنحل، ولكل منهما أن يحافظ على ملته، كما فعلت هي وحافظت على صومها وصلاتها مذ اليوم الأول لهروبهما إلى صنعاء وحتى اليوم الأخير لها عندما فارقت الحياة وهي تضع مولودها سعيد. عندها سيسلم سالم، ويشهر إسلامه، لكنه في داخله، لم يكن يتبع إسلام الإمام بل يتبع مذهب فاطمة. مذهب التسامح والانفتاح واللاعنف، مذهب المعرفة والعلم مذ الحب والتفاني.


سعيد بدوره، لن يجد امرأة تلقمه ثديها، إلى أن يجد سالم صدفه صديقه القديم إبن المؤذن والذي تزوج من يهودية، وهي بدورها من ستقبل بهذا،  فقد مرا بتجربة مماثلة، وستنتهي هذه الرعاية بعد سنين، بزواج سعيد من ابنتهما، لينجبا إبراهيم.


يبدأ الصراع لاحقاً بعد وفاة فاطمة واليهودي الجميل، في دفنهما، تدفن فاطمة في مقبرة اليهود في زاوية خاصة منبوذة، ويدفن اليهودي في مقبرة الإسلام منبوذاً على اعتبار أن إسلامه مشكوك فيه، رغم أنه كان يحاوله أن يدفن إلى جوار فاطمة، لكن قبريهما سيبقيان عرضة للتخريب والمضايقة، حتى يقرر سعيد وقد أخذ العمر منه مأخذاً، الرحيل ومعه صرة، دون أن يعرف إلى أية جهة مضى، كما كان قبري والديه كل في مقبرته كانا خاليين  تماماً من جثتيهما.


إن العنوان كما أسفلنا يبدأ باستفزاز القاريء من النظرة الأولى، ليكتمل الأمر من مطلع الرواية، خاصة حين يستخدم المقري ضمير الأنا، ليتحدث عن الآخر، إنها إعلان صارخ، وتوجه جريء نحو الخطاب في أشد مراحله حدته، إنه محاكاة للآخر وإعادة تشكيل منظومته الثقافية واللغوية وصياغاتها ضمن فضاء مشبع بالصراع الديني.


عبر اللغة واستحضار الكتب والمراجع التاريخية، عبر التحام الحاضر بالماضي، اللحظي بالتاريخي، تتوتر الذات الإنسانية، تُقل في الصراع الذات والموضوع، ينهكها التاريخ ، ويوجعها الانتماء والعقيدة.


ما حملته رواية اليهودي الحالي في جوفها، هو حفر تاريخي يعيد إحدى أكثر القضايا الشائكة إلى زخمها الأول، هو فتح للملفات المتناسية،ومواجهة أمام الماضي، استفزاز لكل المضمون عبر عرض إنساني ووجداني يتجاوز الانتماء والعقائد نحو محاولة الإمساك بذاك الإنسان وقتل فكرة الاختلاف بينه وبين بني جنسه.


يمكن ملاحظة ذاك الارتباط الوثيق بين البنيات الأسلوبية التي يتبعها المقري والبنيات الاجتماعية التي يتحدث عنها، كما يمكن ملاحظة ذاك الشكل الأدبي القديم " الحوليات " في إطاره المُحدث، لتحمل بدورها مجالات الدلالة وفعالية التوتر المتوازي مع المضامين والذروات.


تبقى النهاية رسالة موجعة، أين يُدفن من لا يشاطرنا معتقداتنا ؟ وأين تصير جثته، وأي الجهات يقصدها لتحميه من شر الضغط الاجتماعي وصنوف النبذ ؟


ولكن السؤال الأكثر استفزازاً، هل حاول المقري أن يقول لقرائه العرب أن هذا التاريخ هو من حدا باليهود إلى احتلال فلسطين ؟ أم هل أراد أن يعطي تسويغاً لهم عبر الحفر التاريخي في وضعيتهم الاجتماعية السالفة ؟ أم هو شيء آخر، هو محض جدل عربي – إسلامي داخلي، وإعادة المراجعة ؟ وربما تكون الإجابة الأخيرة هو الأكثر أصحية باعتقادنا نظراً لكون المقري يبحث دوماً عن إعادة ترتيب الأوراق والقضايا التي لم تأخذ حقها من النقاش، وهو ما تجلى في روايته الأولى " طعم أسود ... رائحة سوداء " حين أعاد إلى الواجهة وضعية الأخدام وذوي البشرة السمراء في اليمن ووضعيتهم الاجتماعية في ظل قمع اجتماعي وسلطة طاغية يفرضها اللون. هي إذاً هواجس لا يفتأ المقري أن يجهر بها.


إلى جانب هذ التوجه الذي افترضناه ثمة شيء أكثر وضوحاً لنا، أن المقري قد قدم رواية إنسانية غاية في التصوير والجمالية، تتجاوز كل المعتقدات الآنية وتترفع عن  بؤس هذا العالم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق