الاثنين، 6 يونيو 2011

العرب الغاربة والعرب الغابرة والعرب المستغربة


العرب الغاربة والعرب الغابرة والعرب المستغربة

فادي عاصلة

الصحراء والقبيلة،السيف والحلف، إحداثيات لن يفلت منها أي عربي مذ عهد عدنان وقحطان،وفي جوفهما ستنمو أسطورة هذا الشرق المحير ومخيال العالم ... في قسوة الصحراء في الحر والقر،في شح الكلأ والماء،في الخيام والمواشي في شظف الحياة سيطوع العربي البادية،وستطوعه... لينبثق العهد بين ثلاثيتهما،تصير القبيلة ذاك الإطار المقدس لها  شاعرها ،فرسانها،مناصريها وحلفائها، وفي جوفها تتعزز الأعراف تتعزز الكرامة ،الأخذ بالثأر ،الإباء ،الأنفة،الاستجارة ،حماية الملهوف ،إكرام الضيف وحرمة الأشهر الحرم ... وستعزز الصحراء تلك القسوة والتحدي،الجلادة والتصبر والدم ...

صراعات وحروب ملاحم حقيقة لن تتوقف، العزيمة والاندفاع والنزعة القبلية، هي وقود الوجود،وقول الشاعر :

                      وهل أنا إلا من غزيه،إن غوت               غويت وإن ترشد غزية أرشد ...



دوت في مطلع حرب البسوس ،صرخة  ابن همام في وجه خاله الزير سالم بعد مقتل شقيقه كليب (ملك العرب ) وتأخر الثاني عن الرد : " ألن تأخذ بثأرك ؟ باتت تتقولنا العرب "،ولما استجار شرحبيل بالزير سالم مدعياً الانضمام إلى فريق بني تغلب كي يسرق حصان كليب، عاد إلى بني بكر ممتطياً إياه ،عرف أباه مرة بالأمر (خداعه للزير متظاهراً بالاستجارة ) صرخ مرة بن ذهل البكري في وجهه ( رغم الحرب المشتعلة بينه وبين الزير ) : " لا تحكي هذه القصة لأحد من العرب،لئلا تموت النخوة فلا يجير العربي ملهوفاً بعدها ".

لقد كان للحياة قوانينها المقدسة،وكان للمبادئ ذاك التوافق الجمعي المتعالي،لا يخرق هذه الأعراف حرب أو معارك،وإن خرقت فسيلحق العار بصاحبها.

ومن هنا كان نذر الزير لحرب امتدت أربعين عام لم يوقفها لأن كليباً قد كتب بدمه قبل موته : " لا تصالح " ولأن الزير قد اشترط للصلح " أن يعود كليب حياً " ثم أقسم  :" لن يخمد سيفه ما دام بكري واحد يدب على وجه الأرض " ( بكر : هي قبيلة جساس قاتل كليب،وهم أبناء عمومة ). وحتى لما أعاد الزير بعد حرب الأربعين عام الملك للجرو ابن كليب وجعله ملكاً على العرب،تفرق الرجال من حوله،وانكسر ظهره في آخر معركة فلم يعد يقو على المشي إلا متكأ على عصا،فاعتزل للصحراء،فدعاه الجرو ليعيش معه في القصر،فاشترط الزير على الجرو : " وتكمل الحرب معي ؟ "

هذه النزعة وهذه الحدة لم يستطع حتى الإسلام أن يغيرها،بقيت نزعة حماية القبيلة،والامتزاج الكامل معها هي المحرك لكل التاريخ الإسلامي،لقد شذب الإسلام العربي بحكمة،ونزع عنه كل أدران القبيلة من وئد للبنات ومن عبودية وإلى ما ذالك،لكنه لم يستطع الدخول في قرارة طباعه،ثمة رواسب احتاجت قروناً حتى تصل إلى ما هي عليه اليوم،لكنها هدمت في طريقها العربي نفسه.

وهذا قزمان أحد فرسان المسلمين الأشداء في معركة أحد،قتل ثمانية من المشركين،وأبلى بلاءً حسناً وأظهر استبسال وجرأة غير معهودة،يُضرب بضربة قاتله ،يبشروه بالجنة فيقول : " أي جنه والله ما قاتلت إلا حمية لقومي ".

هي القبيلة المرجعية الأولى والأخيرة وهذا الحجاج ابن يوسف الثقيف،كان مدرساً للقرآن،منعه أحد جند الخليفة عبدالله بن الزبير عن بئر ماء، وقال الجندي للحجاج : " أن ثقيف من أحفاد عاد  " وكذب على الحجاج حين ادعى أن المنع بأمر من الخليفة، ولم يكن أحد ليصدق أن حقد الحجاج مدرس القرآن سيدفعه لهجرة مكة والعودة إليها بعد سنين غازياً يقصفها بالمجانيق ويقتل ابن الزبير ويهدي برأسه لعبد الملك بن مروان.



لسنا بصدد تفسير ومحاججة تاريخية أو منطقية حول كل واقعة وموازنتها ضمن الصواب والخطأ،ولكن بصدد الوقوف على مشارف هذا العقل العربي المتعالي الآنف،بصدد استشراف هذا الانهيار القيمي في عقليته السابقة،أي قراءة وضع العربي الجديد الذي لا يزال يحتفظ بقليل من قبيلته مع كثير من مدخلات العولمة والتكنولوجيا.

لما قتل حجر بن آكل المرار  وأتوا امرؤ القيس الحانه يخبرونه بالحادثة قال : " ضيعني صغيراً وحملني دمه كبيراً،لأصحو اليوم ولأسكر غداً،اليوم خمر وغداً أمر " خاض بعدها حروب ومعارك كثيرة،لكن الجدير في ذكره هو يوم مقتله في انقره بجانب جبل عسيب بعيداً منفرد وهو يعاني القروح،رأى قبراً لامرأة من بنات ملوك الروم ،فصدح وقوله :



أجارتنا إن الخطوب تنوب        وإني مقيم ما أقام عسيب

أجارتنا إنا غريبان هاهنا                   وكل غريب للغريب نسيب



لقد كانت القبيلة خليط الدم بالقرابة بالروحانيات،كانت القبيلة هي أرقى من مفهوم الوطن بلغتنا الحديثة ،وإسقاطا للوطن على القبيلة،فان العربي قاتل لأجل وطنه بالدم والنار،كانت الكرامة والأنفة شغالة في المخيال اللحظي للعربي ممتزجةً مع خليط من القيم المقدسة عزز الإسلام هيبتها وقدسيتها،ولم يكن خلاف العرب مع الإسلام انطلاقاً من صراع القيم بقدر ما هو انطلاق من صراع السلطة والسطوة للعربي الذي لا يقبل حكماً غير حكم قبيلته،فكان دخول الإسلام زعزعة للوطن ،وكان الصراع هو صراع من لا يملك الوطن ويفتش عن قيمة وعزوة،أو من لا يملك منعة القبيلة،وعليه كان المستضعفون بولوجهم الإسلام بحثاً عن قبيلة وإن اختلفت مسمياتها.

كان الطعن بالقبيلة جرم أعظم،هو ذات جرم خيانة الوطن وهذا الذي فقده العرب في طريقهم إلى القرن الحادي والعشرين ،وهذا عروة بمن مسعود الثقفي يقول للرسول ( ص ) : " يا محمد،أرأيت إن استأصلت قومك فهل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك ؟ " كان يعيب على النبي أنه يقاتل قومه وهو عار أشد من القتل في الذهنية العربية،وهو نفسه ( عروة بن مسعود) لما عاد إلا الرسول وأسلم قتله قومه بالنبال.

هوى العربي والأعرابي معاً،سقطا من ملح القبيلة إذ تفقد أولادها دون أن تخبر ضيفها،لشاشات التلفزة هزيلة تُدخل للخيام ما كان السيف سيجزله،من داحس والغبراء،من يوم الجفار وخزاز من معارك المناذرة والغساسنه والتبابعه إلى حضيض السوق المشتركة والمجتمع المفتوح.

تدجن العربي ،عبر سني الاستعمار الطويلة،قاتل بصلابة من عبد القادر الجزائري،إلى عبد القادر الحسيني،إلى عمر المختار وغيرهم ،لكن الاستعمار مضى ومضى العرب معه،فقد تطبعو بطباعه وحال ابن خلدون يقول : " المغلوب يتطبع بطباع الغالب "،ومع قرصنة الإعلام الممنهج ومع ديكتاتوريات عربية تغتال الإنسان في داخله،عاد من عاد ليفتش عن حقيقته،لكن العربي الحقيقي كان قد تركنا مذ سنين لتستفيق القوميات والأحزاب على حنينها.

مر وقت طويل على العرب،طويل جداً،ليأتي الجابري ويقول : " ليس هناك عرب،بل هناك مشروع عربي " عبارة ستحمل من خلفها تراكمات عشرين قرنٍ أو أكثر،لنعيد حساباتنا : ماذا بقي من العربي ؟

بين طيات القرون تغيرت مسميات وأصناف العرب، بين العرب العاربة والعرب البائدة والعرب الباقية،لتصير العرب الغاربة ( نحو الغرب ) والعرب الغابرة ( من تساقط على مر السنين )، والعرب المستغربة ( من تبقى من عرب باتت في صدمة ما يدور حولها ) . . .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق