الأربعاء، 29 يونيو 2011

تركة الشخوص


تركة الشخوص

 فادي عاصلة



لم ينظر للخلف، لم يلتفت

كان يعصر ساعديه

ليزرع حقيقته أمام مرأى من كل الخيبات

في هذا العالم مجنون

ويهوي في صفيح الانتظار

يرقب سائلاً يعيد إليه وعياً

تركه في الغبار البعيد

هل كان صحيحاً أني قتلتني

عندما اختبأت خلف جوعي

هل كان صحيحاً أني بعت

ببعض القهر رجوعي ؟

لن يشفع لك السؤال

ولا  الذين تقافزوا إلى قلبك

كي يصيروا أصدقاء

في زيف الوجوه وامتقاع الأنام ...

لن يبارحك الزمان، يلوي البرد ذراعك

تعصف الريح بقلبك ...

كل ما كان التواء في الكلام،

وسعال خفيف في الذاكرة

لا تنأى عن موتك وتعجل بالأمام ...

لن يشفع لك لا الماضي، ولا تاريخاً زرعته في خطوط جرحك

لن يشفع لك شيء ...

حتى يُزهر الظلام ...

حتى ينمو في دمك انتهاءك

حتى يطفح القلب بالآجام

لتعود من الجليل ضليل

تربي الحياة  في آرام ...





لم يقتفوا أثرك.

مذ غبت في الزحام الكبير

ألقيت حزناً خلف منعطفٍ

وتواريت في  اختفاء ...

من جُحدٍ كان يصير ...

 بضع أوهام كن يا صديقي

لما رتبت بالابتسامات قولاً أخير





لم يعد من الوقت متسع للمقول ...

كان يوغل في وحدته

كان صوفياً

يمعن في الوصول

يهوي في عرفانه

 ويعرف أن الله يعرِفه

ويُعَّرفه كل مدارات الُحلول

يغرس في بغداد ظفريه

وينهل من سمرقند الأصول

كان يمعن في انتقائه

وارتقائه

والتقائه

ومن ثم انتهائه مثل زنبقة

تقتلها حكمة الفصول

لم يعد من الوقت متسع للمقول

وقد يفلح المرء بعد فشلٍ بالنجاح

وقد تطيب له الحياة بعد وقتٍ من جراح

لكن القلب وتر إذا ما يوم إنكسر

لا يصلح ولا يُصلح ولا يجديه الصلاح ...

رأي أملته العقول ...

كأن لم يعد متسع للمقول





هذا زمان الفيض فيَّ

مثل عمرٍ قد تنادى

في تفاصيل المنية ...

مثل صوفي توارى

عن زواياه التقية

مثل حمل مُثقلٍ

مثل نار في يديَّ



هذا زمان الفيض، فيَّ



والموت أحفظه ...

مثل دَيني مثل ديني ...

مثل نبرات المُدين ...

مثل قهري

مثل جوعي

مثل خيبات المَعين ...

زمن، هو كان

يتدحرج مثل قطر زيت في مقلاة ...

ستمتص الغبار كعاصفة قبل آوانها ...

ستُشرق القهوة في دمعك مثل بنٍ عتيق

والفجر يفتش عن رفيق ...

 تكثر الأصوات تتلف الأغنيات ...

وتُنفق الحناجر ...

لا تغرس ظلك في غير أرض ...

كي لا تبيع قوافيك المحاجر ...

وكيف لا تبقى غزالاً

في عين تاجر ...



زمن، هو كان

خيمة  فوق رمل يحرق الشوارع والنايات ...

نار أبٍ في الأمسيات ...

ويد أم تخبز المفازات

من غسقٍ تعجن ثدييها

تنظر أولادها ...

ولا يرتشف حليبها إلا الغزاة ...



لم تلهث هذه المرة

لم تشعر بثقل في الصدر ...

كنت ترى الغيم أقرب اليك

كنت ترى فجوة تتسع في المدى تتقافز فيها أجنحة من نور سرمدي

وتقول غداً قد يكون، غدي .

كان الطريق يختزل المجال ويحتمي بحلمك حين تعيد صياغة الجغرافيا

كي لا تتعثر بانتقاص الظل فيك

وتماهي الأمنية ...



هل تحتاج من العبث  ما يسد فراغات الحاجة  والرتابة ؟

كي ترعى دمك من الجفاف ؟

كنت تحاور ذاتك

لما أرخيت للزهد الجوابَ

وأيقظت فيك حلاجاً يناوئك ...

كم أنت حبيس في الغرابة ...



أفترانا نعزف عنك لما أمعنت فينا ؟

ولأن الأشياء تختصر ذاتها وفي القول مشارف القصي من عمل مرتجى

أعلن خيبتك واصرف عنك عنايتك، واتركها لعابر يستحقها ...

أنت لم تكن ما أنت ...

لكنك ترتب نفسك على الملأ ...

وقد أبلغتك ألا تروِ لسليمان عن سبأ

وألا تروِ للغيم حكايتك مع الظمأ



كأنهم

كانوا قبل ابتداء اللون فيَّ

وقد خالطني وقت خفيفُ على الذاكرة

لم يسرجوا مسافة أخرى

في اللحظات العجاف ...

وانقطع المدى كجديلة شعر

تهوي في غلو عشق في انتشاء الجفاف ...

لم تكن القهوة أكثر حيرة من الدم

وكان الفجر يعلمنا كيف القطاف

من جد لم يجد

ومن نام لا يخاف ...

وحدها البذور  في انتظار غيمة

لكن الشتاء مثقل بعنف الاختلاف



كأنهم

كانوا قبل ابتداء الصوت

وضجيج الموت حين يباغتك على شفا غرفة

تعيث بها وحدك

تعبث بالمرادفات وباللغات وبالسواد ...

صغيرة كانت حين أزهرت جدولاً من عصافير

ولملمت قبلتها في اختناق كانون نار

سيلفظ جمراً ...

ويخبو للرماد

قد كنت منا، ولكنا، أعيينا الوداد ...

وصار الملح شهوة المنفي في كل البلاد ...



كأنهم ..

رتبوا حقيقة أخرى في غفلة منك

كأنهم تناسوا ارتعاش قلبك

وشوقك إلى انتفاء المسافات لأجلهم ...

وصرت دون الآخرين بديلا ...

كأنهم رتبوا حزناً جميلا

يتصاعد من ظلك كلما مضيت إليهم

وقلت يعودون

وقلت

وحلمت وفكرت

وانتيهت حيث لم تكن تنتظر سبيلا ..



لا شيء

في الشيء سوى العزوف  وبعض الجفاء

كنت تتحسس فيك روحك

كنت تنصت للخواء

وكنت تبني ما ستبني

قبل أن تستقي الهواء ...





كيف تركتموه وحيداً ؟

ألقيتم مفاتيح الخطى  ؟

كيف رتبتم أسراركم بعيداً عن وجهه، و جوعه وقهره

ومضيتم إلى حيث يخبأ العابرون بعض أفراحهم الصغيرة ...

كيف أشعلتم ظمئا لئيماً  في تفاصيل يومه ؟

كيف أمسكتم عنه وقد جاور فيكم حدود ابتسامة، تشق الطريق، كانت ...

قبل مَقتل النشوة فيه، وارتقاء الحنين ...

كيف تركتموه يضيء الشمع في ظلمته ...

ويعد السنين ...

ويهوي بسيف على سيفه 

عله يخلص من قهر دفين

ويعيد التيه إلى مهده ..

ما أقساه تيه في مدار الخائبين ...





كيف تركتموه عند انتصاف المسافة

تناوئ ذاته، ذاته ...

في لون سائليه ...

كيف تركتموه وحيداً

أيترك المقاتل مع قاتليه ... ؟





عبثٌ هذا الأمل فيك، يستفز ...

كم تنتهي حيث لا يكون للحياة مكان

وكم تقاتل فيك موتك

وكم يغالبك الزمان

عبثٌ هذا الأمل فيك

ستغرق في الحبر اليتيم

وفي القوافي

وفي الفيافي

وفي المنافي

وفي البيان

لتحصد ما جناه عليك قلبك ...

وتأكل ما ضيعه الأوان ...


الثلاثاء، 28 يونيو 2011

في سني ماركيز وعزلته

في سني ماركيز والعزلة




فادي عاصلة



عندما كتبت صحيفة الغارديان عن رواية جابريييل غارسيا ماركيز، قالت : " قليلة هي الروايات التي تغير حياة الناس .. وهذه واحدة من تلك الروايات "، فهل كنا أمام مبالغة أدبية صاغتها الغاريادن في معرض حديثها عن الرواية ؟ أم كان تهويل وتحبب بماركيز ؟ لا شك في أن الرواية هي من فرضت ذاتها، ومن خلال خيال ماركيز تحولت إلى إحدى الملاحم الكبرى في التاريخ، مؤسسة لنموذج روائي متميز في " الواقعية السحرية ".

مائة عام من العزلة هي رواية صارخة مُشبعة بعنف الأسئلة، مُقلقة بالزمن وبالمفاهيم الإنسانية، خارجة من تنور أفكار  ملتهب. وإذ تجمع بين البنية الإجتماعية والبنية الشعورية، فإنها تدمج أيضاً بين الواقع والخيال بتميز واضح دون أن تتخلخل الفضاءات الرواية بقدر ما هو انسجام موفق.

الرواية التي تتم أحداثها على مدار ستة أجيال، خلال مائة عام، في قرية ماكاندو، تدور حول عائلة بوينديا التي أسست القرية من خلال خوزيه أركاديو بوينديا الذي أسسها صدفة بعد هروبه من قريته على أثر قتله للشاب برونسون إجويلار ومن ثم مطاردة شبح الأخير له وعقدة تأنيب الضمير ليغادر البلدة مع بضعة أصدقاء ويؤسس ماكاندو.

يظهر ماركيز مشبعاً بالمكان، مرهقاً بالزمان فهو الرقم الصعب، لذا لا نراه يحدد للرواية تاريخاً، قد يستشف القاريء من خلال التطورات الصناعية والتكنولوجية الفترة التي يتحدث عنها، لكنه لا يعيره اهتماماً، لأن الزمن لديه متوتر، فأورسولا زوجة خوزيه أركاديو بوينديا كانت أول من يستشعر بأزمة الزمان فتعتقد أن الزمن يدور في حلقة مفرغة، وكان العديد من أفراد وسلالة العائلة يستشعرون ذات الشيء، كما أن الموقف السلبي من الزمن ينعكس لدى مركيز من خلال التطورات والتقدم الذي طرأ على القرية وما رافقه من انفتاح على العالم واستثمارات أجنبية حيث يبدأ الإذلال بحق العمال لتنتهي بإبادة ثلاثة آلاف منهم في الإضراب، كما يتحول السكان الأصليين إلى غرباء في قريتهم، عدا عن التدخلات الأجنبية وتحول القرى إلى سلعة بيد المستثمرين.

الزمن قاس، يقتل الأمجاد، يشعل الذكريات، ينسف المعاقل الاجتماعية، ويفجر توترات المشهد الإنساني، يثري الثنائيات، ويجرد الإنسان من شروط وجوده، ومن قدرة الإمكان في حيزه، هكذا يتبدى الزمن من خلال مائة عام، كيف تنضج البلاد وكيف تخرب، وكيف تعيش بيلارا تيريزا مائة وخمسة وأربعون عام تشهد فيها كل الأحداث من أول رجل في العائلة حتى الرجل الأخير، ثم تهوي هي بدورها، هو صراع إذاً يتجاوز الشخوص الذي لا يتحولون في فضاء ماركيز إلا لحملة منظومة قيمية ومشخصين لدفعة من الهواجس المتولدة.

تنتعش القرية التي يؤسسها خوزيه أركاديو بوينديا، وتصل إلى ذروتها على أثر تأسيس شركة الموز، ثم تبدأ بالانهيار تدريجياً، بسبب تدخل الشركات الأجنبية ومظاهرات العمال، والقمع والصراع، يرافقها تصدع عائلة بوينديا وتفككها، ووفاة ركائزها من خوزيه أركاديو بوينديا الذي توافيه المنية مربوطاً تحت شجرة الكستناء بعد أن بات مؤذياً ويشكل خطراً على من حوله، مروراً بالعقيد أورليانو الذي قادر الحروب والمعارك وخاض قتالاً استمر لسنين، ثم  أورسولا التي ماتت  بعد أن تجاوزت المائة عام بكثير،مروراً بالتوأم خوزيه أركاديو الثاني، وأروليانو الثاني وأمارنتا وروبيكا وغيرهم.

رغم كل ذلك تبقى غرفة ماكيادس غرفة الرقائق والكتب والمخطوطات، في بيت عائلة بوينديا، صامدة كما هي، لا يتغير فيها شيء، ولا يقترب منها الزمن، وفي كل جيل من آل بوينديا كان هناك من يدخلها ليعيش فيها فترة من الانعزال في القراءة، إلى أن بدأت تتساقط العائلة ولم يبقى سوى أورليانو وأمارنتا-أورسولا التي ينجب منها طفلاً فتموت خلال عملية الولادة، فيما الطفل يموت بدوره حين يأكله النمل، لتصدق النبوءة : " أول السلالة مربوط إلى شجرة، والأخير يلتهمه النمل " ويموت أورليانو الذي تأكد أنه لن يستطيع الهرب فالأمر محتوم.

تزخر الرواية بصراع قيمي عنيف، بين الحرية والعبودية والذي تجلى من خلال حرب العقيد أورليانو بوينديا ضد المحافظين، ومظاهرات العمال في شركة الموز، إضافة لمفاهيم الحب والكره والحقد بين روبيكا وأمارنتا، وخلو نسل العائلة من زواج حقيقي ناشيء عن علاقة حب، سوى الزواج الأخير في العائلة بين أورلياتو وأمارنتا-أورسولا وليتبين في النهاية أنها خالته، حتى الطفل ولد بذنب خنزير.

كما تحمل الرواية في طياتها رسائل أيدولوجية عنيفة، ففي وصفه لخوزيه أركاديو الثاني يقول : " فقد كان هو طويلاً نحيلاً، وقور الهيئة، دائم التفكير، حزيناً جاداً، كهيئة فارس عربي مسلم " ( ص 331 )، وفي موقع آخر من الرواية يقول : " عرب الجيل الثالث يجلسون في المكان نفسه، في الموقع الذي جلس فيه أباؤهم واجدادهم، صامتين، لا يهزهم الخطر، ولا ينال منهم الزمن، ولا تضعضعهم الكارثة، فقد ظلوا كعهدهم .. فهم لا يتغيرون في حالي الموت والحياة، فلقد أظهروا قوة روحية عجيبة " ( ص 419 )،بينما يقول في أحد المواقع على لسان العقيد أوريليانو بوينديا : " لسوف أسلح أولادي يوماً، لكي نخلص من هؤلاء الأميركيين القذرين ".

إن هذه الرسائل المضمرة داخل الرواية  بالتأكيد جزءاً من رسائل الرواية، ومن رؤية الواقع التي ينطلق منها ماركيز ليشكل عالمه الروائي، وبالتالي فإن تأويل ماركيز يتم ترميزه لإعادة إنتاجه أيدولوجياً، وهو ما يمكن لمسه من خلال عبارات ذات بعد أيدولوجي مباشر منثورة بين ثنايا الرواية.

بعد مائة عام من العزلة، نعود إلى الغارديان وعن الرواية التي وصفتها بأنها من الروايات القليلة التي تغير حياة الناس، يبقى فعلاً قدرة الرسائل الثاوية في بنية الرواية، في التمرد على الواقع وفي الرفض لحياة العزلة، وفي الخروج من الدائرة الزمنية، وعد الخضوع للنظام الزماني الذي من شأنه أن يحول الإنسان إلى " شيء " له مهمة محدد لا أكثر ولا أقل.

هي جملة من الرسائل والقيم، وقد يكون ذروة ما أراد ماركيز قوله لقارئيه، هو ما قاله بالضبط على لسان الكاتالوني الحكيم ( ص 511 )،  " ... أن يتذكروا دائماً أنى كانوا، أن الماضي لم يكن سوى كذبة، وأن لا عودة للذاكرة، وأن كل ربيع يمضي، لا يمكن أن يُستعاد، وأن أعنف الحب وأطوله وأبقاه، لم يكن في النهاية سوى حقيقة عابرة ".