الأربعاء، 3 أغسطس 2011

ماذا بقي من معطف غوغول


ماذا بقي من معطف غوغول


فادي عاصلة


ما أن يُذكر الادب الروسي، حتى يتبادر إلى الذهن مباشرة نيقولاي غوغول ( 1809 – 1852 )، مُدشن الرواية الروسية، وأحد رائدي الأدب الروسي، وإن قال دوستوفسكي : اننا خرجنا جميعاً من معطف غوغول "، فالبعض ذهب إلى أكثر من ذلك كنيقولاي تشرنشيفسكي الذي قال : "   منذ زمن بعيد لم يشهد العالم كاتباً مهماً لشعبه كأهمية غوغول للشعب الروسي... لقد قال لنا مَنْ نحن، وماذا ينقصنا ، وإلى أي شيء ينبغي أن نصبو، ومما ننفر، وماذا نحب. وحياته كلها كانت كفاحاً متحمساً ضد الجهل والفظاظة... كانت كلها منذورة لغاية - فكرة لاهبة ثابتة، وهي العمل على خير وطنه".

غوغول وفي سائر إنتاجه الأدبي رسالة إنسانية لم يفتأ يصدح به، منادية برفع الظلم والإجحاف عن الطبقات المسحوقة، وإعادة الاعتبار للمواطن والمجتمع في ظل استشراء النظام الجديد الذي يفرغ الإنسان من مضمونه ويحوله إلى آلة مفرغة من قيمها الإنسانية، كما نادى مبكراً بضرورة إنقاذ المجتمع الروسي الذي داهمه وباء الإقطاع حيث أجاد تمزيقه وتحويله إلى فئات متناحرة.

في قصة المعطف والتي كتبها غوغول عام 1842 حين كان عمره ثلاثة وثلاثين ربيعاً،. تظهر منهجية غوغول واضحة للعيان، منهجية واقعية ملتحمة بتفاصيل الحياة والوجود دون أن تلغي الفانتازيا أو تستحوذ مكانها. بحيث برزت منهجيته النقدية من خلال الرسائل الثاوية في طيات نتاجه الأدبي. يومها أثارت الرواية زخماً ونقاشاً حقيقياً حيث عززت أدبية غوغول الذي بدأ يتحول إلى أهم وجوه الأدب الروسي

القصة كقصة يمكن اختزالها ببساطة أنها تحكي قصة موظف فقير يعمل كناسخ في إحدى الدوائر الحكومية، إلا أن معطفه يتلف، فيبدأ صراعه لتوفير ثمن معطف وبعد توفير المبلغ وتفصيله وشراءه، يسرق المعطف من هذا الموظف، الذي لا تسعفه لا الشرطة ولا الشخصيات الهامة ( المحسوبيات ) في استرداده، فيموت لاحقاً إلا أن شبحه يبدأ بالظهور ليختفي بعد أن يسرق معطف أحد الأغنياء من الشخصيات الهامة ممن كانوا قد استهزئوا به سابقاً.

إذاً نحن أمام قصة يمكن تلخيصها بسرقة معطف، لكن قيمة قصة المعطف هي في قدرتها على توليد كل ذاك الزخم الإنساني وعلى نبش جوهره، ففي المعطف لا يذكر غوغول في أية دائرة يعمل هذا الموظف البسيط " أكاكي " فهو يؤكد ألا أهمية للدائرة، لا يهم لأن الدائرة تنسحب على كل الدوائر، فيما أكاكي الذي ينسخ، سيتحول إلى آلة ينسخ كل شيء، حتى في بعض الأحيان يقوم بنسخ أوراق مرتين إذا لم يجد ما ينسخه، هذه هي حالة الإنسان حين يتحول إلى آلة وإلى أداة ليس من المطلوب منها أن تبدع وتبتكر بقدر ما هو مطلوب منها أن تقوم بعمل محدد كماكنة.

" دعوني، لماذا تسيئون إلي " ( المعطف، ص 11 )، هي رسالة هذا الإنسان، رسالة الإنسان البسيط حين يرفض التورط في صراعات الآخرين، وحين لا يرغب الدخول في المناوشات الجماعية التي تدور حوله، بحيث يتحول صوته إلى نبرة تثير الإشفاق، لكنه يرتجف لمَّا يرى : " ما أكثر اللاإنساني في الإنسان " ( المعطف، ص 12 ).

وبالتالي فإن الفقراء كأكاكي يستنفذون كل إمكانيات الإصلاح، وفي النهاية حين لم يعد المعطف يجدي، تبدأ عملية المعدمين في توفير حاجياتهم، فمجرد توفير ثمن معطف لزم أن يقتصد في استهلاك وجباته اليومية والاستغناء عن بعضٍ منها، بحيث أن أمنيات لا تتعدى أن تكون حاجيات أساسية للمعيش.

إلا أنه في النهاية يخسر المعطف إذ يسرق منه، لأن الفقراء لا يجيدون حماية أنفسهم، ولا يجدون أيضاً من يحميهم، فالشرطة تقف مكتوفة الأيدي، فقط من يملك علاقة مع شخصيات هامة، هو من يستطيع حل مشاكله. وهي بدورها الشخصيات الهامة لن تسع لمساعدة المعدمين، بل تستلذ في صهرهم وقهرهم، إذ يعجب : " ويثمل بفكرة أن كلمته تستطيع تجريد الإنسان حواسه " ( المعطف، ص 70 ).

لما يموت أكاكي بسبب الحمى وبرودة الرياح في بطرسبورغ، يظهر شبحه في الشوارع، يمشي هائماً ويفتش عن معطفه ويدقق في معاطف الآخرين. حتى يسرق الشبح معطف الشخصية الهامة، الذي يفزع ويعود مرتجفاً،  بعدها تنتهي قضية الشائعات التي تتحدث عن ظهور الشبح، فيبدو أنه استراح في موته.

إن الشخصية الهامة هي رمز لا ينتمي لوظيفة بقدر ما هي منصب يتخفى وراءه الشخوص على اختلاف تسمياتهم، ولن يكون من المجدي الإيمان بصلاح وفق ما يرتئي غوغول حين يقول عن الشخصية الهامة : " فإن قلبه كان وراء كثير من الأعمال الطيبة، بالرغم من أن المنصب كان كثيراً ما يعرقل ظهورها " ( المعطف، ص78 )، هي إذاً رسالة فلسفية  مطروحة، أن المنصب له الأثر العميق في صياغة الذات الإنسانية وهي ما يمكن مقاربتها مع رؤية ميشال فوكو الفيلسوف الفرنسي حين يتحدث عن المؤسسات بأن منهج الخطاب : " يخضَع ويُخضع في ذات الوقت " وبالتالي فإن المنصب دوماً سيفرض سلطته ولن يستطيع الفرد الفاعل أن يتخلص منه، إذاً فالحل ليس في الشخوص بقدر ما هو هيكلة للبنية الأخلاقية الممُأسسة للبنية المؤسساتية.

لم يكن معطف غوغول، هو معطف يرد البرد، بقدر ما كان معطفاً يحيل إلى الغطاء الإنساني الذي يجب أن يبقى موجوداً ليحتمي به فقراء المجتمعات من ريح التطور الإنساني وفرط التبدلات الاجتماعية التي تخلق شرائح تتغذى على بعضها.

إن رسالة غوغول كانت رسالة غاية في الإبداع، في تصويره للفقراء يعودون من موتهم لينتقموا لأنفسهم، ألم تكن هي ذاتها روح غوغول حين استثمرت من جديد هو ونخبة الأدباء الروس وعلى رأسهم بوشكين في الثورة البلشفية في روسيا ؟
ولكن السؤال يدوي من جديد، وفي ظل حضارتنا المعاصرة، في واقع مختل استشرت فيه العولمة وأبدعت الرأسمالية النهمة في الخروج من كل مآزقها عافية مسالمة، وفي ظل صهر للإنسان البسيطة وهيكلة للعالم وصهر للثقافات وترسيم جديد لحدود متجاوزة للجغرافية، وفي عالم باتت ترسمه وسائل الإعلام، بتحالف مع الشركات والمؤسسات، على وقع كل ذلك يتبادر سؤال قديم جديد :  هل بقي للفقراء من معطف يحميهم؟ ماذا بقي من معطف غوغول ؟

قصة المعطف لنيقولاي غوغول، مكتبة ومطبعة السروجي، عكا  - فلسطين، الطبعة الأولى 1980، ترجمة خليل كمال الدين، 85 صفحة من القطع الصغير


هناك تعليق واحد:

  1. الان فهمت الرواية ... جزاكم الله خيرا

    ردحذف