السبت، 11 يونيو 2011

أزمة الفكر السياسي العربي - الإسلامي بين الجابري وأركون

أزمة الفكر السياسي العربي - الإسلامي بين الجابري وأركون

فادي عاصلة

الإهداء ...



إلى روحي الجابري وأركون

نقيضان علمانا فن الالتقاء ...


مقدمة :

ينطلق هذا البحث في محاولة استفزاز ذهني في قضايا نقد العقل العربي – الإسلامي، وإذ يحاول المشاغبة، ينحو نحو قراءة مقارنة بين اثنين من كبار مفكري العالم العربي – الإسلامي : محمد عابد الجابري ومحمد أركون، محاولاً قدر الإمكان أن يقترب من إجابة السؤال : " من خلال نقد العقل العربي لدى الجابري والعقل الإسلامي لدى أركون كيف رأى كل منهما أزمة الفكر السياسي وعالجها ؟ "

لا يطمح هذا البحث على ضئالته أن يقدم إجابات شافية، ولا يرنو لسد ثغرة في محيط الفراغات العربي، ولكنه  يحاول أن يشكل ضجيجاً قد يثير أحدهم. وإذا كان اختيارنا للجابري وأركون معاً فلأن ما جمعهم هو ما فرقهم، ولأن الحقل مشترك والتوجه النقدي مشترك والنتائج مختلفة تصل حد المزاوجة أحياناً وحد التناقض في أخر.

سنخصص الفصل الأول من البحث لأركون عبر مدخل فلسفي عام مروراً باهم أفكاره وصولاً إلى رؤيته السياسية.

فيما سنخصص الفصل الثاني لمحمد عابد الجابري بذات الأسلوب المتمثل بمدخل فلسفي مروراً بأهم أفكاره وصولاً إلى رؤيته السياسية .

أما الفصل الثالث سيكون مقارنة ربما لا تستحق المقارنة فسيكون القاريء قد شكل فكرة تخوله المقارنة دون سلطة الكاتب.


محمد أركون


في رحلة التوحيدي الثانية


إن قصدي العميق أن أقدم مثلاً عما يجب أن يكون عليه الجهاد المخلص للتوتر الروحي والفكري الذي كان في أذهان المفكرين الأوائل ...
محمد أركون



ليس هذا النص سوى مقاربةً تأويلية لفكر محمد أركون على ما  يحفه من مخاطر ويشوبه من حوافز المعرفة ،وإذا كان استنطاق اللغة قتلاً لمؤلفها على حد تعبير جاك داريدا،فإن السعي هذا  يحاول الإفلات من زمام التقويل – قدر المستطاع، وتحاشي السقوط في شرك التكرار والسرد.

لم يكن العنوان " في رحلة التوحيدي الثانية " إلا لكوننا نرى في رحلة أركون رحلة ثانية للتوحيدي، أركون الذي وُلد نفس التوحيدي في داخله. لم يشر بانتمائه وحبه لفيلسوف من الحضارة العربية الإسلامية إلا لأبي حيان التوحيدي،إذ قال فيه أيضا : " إن أسمه يلمع كاستثناء شاذ وغريب في خضم التاريخ "[1]. ولا بد أن ذاك التقارب بين أركون والتوحيدي رغم فارق ألف عام بين كليهما يعود لتلك الشحنات النقدية الحادة التي أطلقها كلاهما ،كل في عصره ،ضد كل إكراه على العقل والفكر، ورفض فصل الفكر والسلوك عن بعضهم البعض،أو العمل الفكري والعمل الأخلاقي، كما هضم التوحيدي فلسفة القرن الحادي عشر،بما فيها الفلسفة الإغريقية،وكتب العديد من المؤلفات الهامة المغرقة في القلق المعرفي،إضافة لكتب في الفلسفة والأخلاق والفكر،يتبدى أركون بدوره هاضماً للفلسفة الغربية كاتباً العديد من الكتب الجريئة المنادية " بالتحرير الثاني "[2] أي تحرير العقل بعد أن تحررت البلاد من أوزار الاستعمار.وربما الشيء المشترك بينهما هي تلك العبارة الحارقة والتي أطلقها التوحيدي وهو يحرق كتبه في ساحة بغداد العامة : " وإني ألوح كوميض برق لا يضيء ولا يستضيء ".

ينتمي أركون إلى مرحلة وجيل أحدثا ثورة منهجية وابستمولوجية كميشال فوكو وجاك داريدا ورولان بارت وبيير بورديو،وقد كانت هذه المرحلة شاهدة على صعود البنيوية وهبوطها وعلى صعود المنهج التفكيكي وتراكم الإفرازات والنقاشات الحداثية . وعلى ترسبات الوجودية،وتطور منهج اللسانيات، في ظل هذه الصراعات الفلسفية والفكرية التي عصفت بالساحة الفرنسية كان أركون ينهل هناك ويعمل جاهداً في محاولة استثمار كل هذا التراكم المعرفي والمدارس الفلسفية في خدمة ونقد قضيته والوقوف على أسباب الانحسار وشروط النهوض. وهو ما تجلى في مدرسته النقدية التي تعمل ضمن عدة مناهج بين التاريخية والتفكيكية والأنثروبيولوجية والألسنية والسيكولوجية والسوسيولوجية،ولم يكتف بذلك بل مضى نحو تعميق العمل ضمن كل منهج منادياً بعلم النفس التاريخي وعلم النفس الاجتماعي...

انطلق مشروع أركون قبل نحو خمسين مذ مقالاته الأولى التي ظهرت في العام 57،ومذ تلك الفترة وهو يحمل ذات الهم،منطلقاً بقوة في دراسته الجادة،نحو بناء مشروع نقدي يسعى للخروج من ضيق الأفق الدوغمائي ( العقائدي )،ومن الأرثوذكسية المستشرية ( يسمي أركون الإسلام السني بالأرثوذوكسي على حد معنى الكلمة الحرفي،أي مدعي الرأي المستقيم،كما يلقبون ذاتهم )،نحو إسلام تطبيقي منفتح على العلوم الإنسانية ومناهج البحث العلمي المعاصرة،وتطبيق النتائج من خلال إنصاف العقل وإعادة هيبته المفقود مذ وفاة ابن رشد القرطبي. ولكن لا يفهم من خلال ذلك أن نقمة أركون منصبة على المؤسسات الدينية الإسلامية فقط،بقدر ما هو أيضاً ناقد للغرب ولمركزيته باعتباره عامل مساهم في تأزيم الواقع ،ومشاركته في هذا التدمير الإنساني للعقل والإنسانية سواء من خلال إرث الاستشراق أو من خلال عدم تقبله للنقاش الإسلامي بشكل جذري،إضافة لذلك محاولة تصدير قوالب جاهزة للمدنية والحداثة كحقوق الإنسان وغيرها من مرفقات تتجاهل المناخ والخصوصية الإسلامية.

لذا يرى أركون أن الواقع العربي بحاجة إلى تغيير جذري سريع وعاجل كونه مأزوم في ظل مرضٍ مستشرٍ قد لا يمهله الإصلاح،وعليه يجدر بالبدء فوراً بحمله دراسة منهجية لكل التراث الشفوي،والمكتوب،إضافة لدراسة اللامفكر والمنسي،والمتنكر في التراث،يرافقه حملة ترجمة هائلة للمنتجات الثقافية والفكرية والفلسفية الغربية ومن ثم تعريبها وتصنيفها،ليتسنى الإطلاع على الإنتاج الغربي ومن ثم البحث عن إجابات لكل الأسئلة التي تفجرها أزمة " الروح القلقة " المنقسمة بين الفلسفة والدين،بعدها يبدأ عصر الإنتاج لإخراج الذات من التلف والتعفن والسبات الذي تراكم لقرون.

ما يهمنا في مجال بحثنا هنا،هو رؤية أركون لأزمة الفكر العربي الإسلامي باتجاهها السياسي ،والتي لا تنفصل عن أزمة الفكر الإسلامي عامة ،من هنا  فإن قراءة كهذه تستجوب توضيح مزدوج يحاكي الجزء والكل معاً.


أركون، ومشروعه الفلسفي




محمد أركون : طود شامخ ينهار
عبد المجيد الشرفي بعد وفاة أركون،مجلة الطريق الجديد 27 سبتمبر 2010
إنه أكبر حفار أركيولوجي في تاريخنا الفكري،لقد قدم لنا أكبر خدمة عندما قام بالعمل الصعب وأنجز المهمة الشاقة : أي مهمة التعزيل والتكنيس الكبير. أقصد تكنيس القشور والحشو وحشو الحشو المتراكم على مدار العصور. لقد تنفسنا بعد أن قراناه وانزاح عن كاهلنا عبء ثقيل : عبء التراكمات التراثية التي تظلم الأفق وتشل الطاقات وتسد الطريق
هاشم صالح،رفيق دربه،ومترجم جميع كتبه على مدار 30 عام


يمكن إدراج كل ما كتبه أركون طوال أربعين تحت عنوان نقد العقل الإسلامي،فهو المشروع الذي كرس له عمره وشحن به زُبده أفكاره. وقد اختار له هذا الاسم انطلاقاً من رفض ارتباط القومية بالعقل إيماناً بأن العقل هو إما عقل ديني أو فلسفي،علمي،وضعي .. ولكنه ليس عقل ذو ارتباط قومي،وبالتالي فطالما الحديث عن عقل ديني عندها يرتبط بالديانة عقل إسلامي،عقل مسيحي .

من هذه النقطة كانت انطلاقة أركون في نقد العقل الإسلامي،وهي معركة سيكون فيها ضحية رقابة مزدوجة،رقابة السلطة السياسية ورقابة المعارضة الأصولية،رغم أن مشروع نقد العقل الإسلامي وكما أوضح أركون مراراً يسعى لدراسة التراث العربي الإسلامي دراسة شاملة يتم خلالها غربلة عامة وشاملة،من أجل معرفة بنيته الداخلية،أو كيفية تشكله التاريخية طيلة القرون الستة الأولى بشكل خاص. فما جف منه وتخشب ومات نطرحه أرضاً ونبقي على الجوهر الروحي والأخلاقي[3].

يرى أركون أن الحضارة العربية والإسلامية كانت قد ازدهرت وانفتحت على الثقافات والحضارات الأخرى وتطورت بصورة ملحوظة ومشرقة،كما كان هناك مساحات من التعددية والحرية تسمح للعقل بطرح الأفكار والأسئلة رافقها بروز أسماء مفكرين وفلاسفة ذوو شان عظيم،كان لهم إسهامات ملحوظة ومهمة كابن رشد ومسكويه وابن سينا والكندي والفارابي والجاحظ والتوحيدي وغيرهم. والتي تدل توجهاتهم على زخم فكري وفلسفي ومعرفي هائل،كالعقلانية النقدية التي اتبعها مسكويه،أو الفارابي الذي يعتبر من القلائل الذين تغلبت عندهم التوجهات الفلسفية على الأثر،أو الموقف القرآني.

 مع الوصول إلى القرن الثالث عشر بدأت الأبواب بالانغلاق لتبدأ مرحلة العقائدية المغلقة والتي تحاول السيطرة على النص القرآني والإنفراد بالحقيقة الدينية يرافقها حملات تكفير ورقابة ،إضافة لانغلاق وتعصب طائفي ومذهبي عنيف لم تشهده الحضارة العربية والإسلامية قبلها،خصوصاً بدءاً بقرار الخليفة القادر عام 1020 إباحة دم المعتزلة ( وهي التيار العقلاني داخل الحضارة الإسلامية – إن صح التعبير ) وحرم فيه فكرهم.

كانت هذه فاتحة الضربات التي ستتلقاها الأفكار المنفتحة والعقلانية،وسيكون بعدها حملة الغزالي الشرسة على الفلسفة ،لتكون الضربة القاصمة وستنتهي بعدها الفلسفة المشرقية وتخلد في سبات عميق حتى مطالع القرن التاسع عشر،في المغرب انتعشت الفلسفة نوعاً ما على يد ابن رشد وابن طفيل وابن باجة لتعيش لحظاتها الأخيرة ثم تخمد هي الأخرى.

من القرن الثالث عشر بدأت الحركات الأصولية المتزمتة والمذاهب بالتكرار والاجترار واحتكار الدين بتفسيره وتأويله،لذا وصلت الإنتاج في هذا الجانب إلى ذروته فيما الفلسفة والفكر بدأ ينهار رصيدهما بشكل متسارع،وبوفاة ابن خلدون تكون الحضارة العربية الإسلامية قد فقدت آخر فلاسفتها.وكانت فترة الدولة العثمانية خالية تماماً من أي توجه فكري،كان استشراء ما يسمى بالتضامن الوظيفي بين السلطة السياسية والسلطة الدينية،وهي وظيفة بدأت في القرن التاسع ميلادي،بعد أن بدأ تدوين الحديث النبوي واعتباره مرجع شرعي،علماً أن الرسول كان قد توفي في القرن السابع ميلادي،إن هذا التدوين في ظل انقسام فئوي بين المسلمين ( شيعة،سنة،خوارج ... ) وفي ظل سلطة سياسة موجهة للدين بما يخدمها،كل هذا عزز من انحياز الحديث وتسييسه،وفي خضم ذلك تحول التأويل كما حدث للحدث فبدأت تتسرب منه مضامين ذات صبغة سياسية تعزز سلطة الحاكم في مواجهة المحكومين.

كل هذا التراكم والتداخل بين السياسة والدين،الدين الرسمي والدين الشعبي،الدين المروي والدين المكتوب،الدين المدني والدين الحضري،الدين المنفتح على العلوم،دين الفارابي وابن رشد وابن النفيس،دين الشافعي والغزالي وابن تيمية،أقول كل هذا رغم تناقضاته إلى أنه فتح باب تعدد الأصوات،لكنه تعدد ستقمعه السياسة ليتلاشى بعد القرن الثالث عشر.

ما الذي حصل هناك في تلك الحقبة ؟ كيف انتصر الغزالي على ابن رشد ؟ وكيف تهاوت أعمدة النقد والتحليل والتفكير المنطقي في الحضارة الإسلامية ؟ هي أسئلة تفتح الباب على قراءة تاريخية هامة،تمضي من القراءة التاريخية الاجترارية،نحو علم التاريخ النفسي،وعلم التاريخ الاجتماعي،نحو قراءة المنظومة الاجتماعية للقرن الرابع،بعد سقوط بغداد وتهاوي حصون عديدة في الأندلس من جهة،والضخ لفتح القسطنطينية ودعم الفقهاء التقليديين ووجهاء العشائر من جهة أخرى،في موازاة حالة بؤس اجتماعي تفرض بطبيعة الحال توجهات دينية مقترنة بالمجد السابق على أساس ديني : " إذا تركتم دين الله وسنتي سلط الله عليكم من لا يخافه ولا يرحمكم "،هو إذاً خروج من دائرة السيطرة العقائدية نحو سيطرة عقائدية،هو إذاً انفتاح المجال الديني على كافة المجالات المعيشية وتجاوز كل العقبات المكانية والزمانية للخطاب الديني لتتحول التموضعات الفردانية والأوضاع المختلفة إلى ذات الوضع عبر عنصري التبرير والتأويل،كمفهومان جاهزان دوماً لتفصيل دين يلائم كل شخص وفق واقعه الزماني والمكاني والحياتي والإنثروبيولوجي.

لمَّا استفاقت الحضارة العربية الإسلامية بعد قرون،عبر الحملات التعليمية التي أرسلها محمد علي باشا للدراسة في فرنسا،وُلدت حالة انبهار عنيفة من العالم الغريب ومن التطورات الملحوظة،ولكن هذه التطورات ليست هي تلك المرتبطة بالمرافق والحياة اليومية،بل هو تقدم فكري وثقافي وسياسي وعلمي،هو تقدم بنيوي شامل مرتبط بكل مجالات الفرد الإنسانية.في هذه النقطة بالذات بدأت تتسرب هذه التطورات الغريبة نحو العالم العربي الإسلامي،وعندها بدأت تتراكم الأسئلة التي لم يفكر بها يوماً،أو الأسئلة المنسية،أو الأسئلة التي تم تناسيها دوماً.

من هنا انعكس هذا الصراع  في مشروع النهضة الذي انتعش في تلك الفترة محاولة أن يتجاوز ما يسمى بالقطيعة المعرفية وهي حالة السبات التي عاشتها الحضارة العربية الإسلامية مذ القرن الثالث عشر،هذه التجاوز للقطيعة قابله نتائج مغايرة تماماً،يقول أركون : " نلاحظ أولاً أن الإسلام كدين وكذلك الفكر الإسلامي والمجتمعات الإسلامية قد ظلت خارج الحدث كلياً. ففي الوقت الذي كانت فيه المجتمعات الأوروبية تشهد متغيرات متسارعة أرادتها ونفذتها البرجوازية التجارية ثم الرأسمالية،لاحظنا أن عالم الإسلام كان خاضعاً لعمليات معاكسة من الإضعاف وانحسار الآفاق الفكرية وتقلص الفعاليات الثقافية وتوسع النظام القبلي والعشائري كلما ضعفت السلطات المركزية.وهذه المتغيرات هي التي مهدت الطريق للاستعمار والهيمنة الأجنبية التي أدت إلى تفاقم الأوضاع الاقتصادية والسياسية والثقافية وبالتالي إلى انفجار حروب التحرير الوطنية بعد الحرب العالمية الثانية.[4] 

الصراع الشرس في مرحلة الاستعمار أدى إلى تحولات هائلة ومثيرة للدهشة،فقد دخلت عوامل كالحزب والقومية والوطن ،الاشتراكية،الليبرالية،الماركسية،اليسارية، كلها مصطلحات غريبة عن حضارة أفاقت فجأة على وقعها،لكنها خلقت أزمة أدت في نهايتها إلى مصرع المشروع النهضوي،بعد فوز الوطن والدولة القطرية كان منتصف القرن العشرين هو التاريخ الذي حسم الصراع بين المشروع النهضوي باتجاهه الفكري وبين المشروع التحرري الذي يكرس : الدولة – الوطن – الحزب،ثلاثية ستكرس في داخلها أيديولوجية جديدة وتوجهات جديدة،كمن يبني جديده،فوق أساسات تالفة.

على أساس كل ذلك يأتي مشروع أركون،كمشروع يحاول لأم القطيعة المعرفية،وإعادة هضم كل الأفكار الجديدة،وتخصيبها في موقعها الصحيح،وقراءة كل التاريخ والتراث الإسلامي بشكل علمي ومنهجي صارم لا يخضع لأهواء العاطفة ومنابت الانتماء،مشروع تطبيقي،يدرس :" تجليات هذا الفكر،ومنتجاته التي تتجاوز الحدود والحواجز التي فرضتها الأدبيات الهرطقية ( البدعوية ) والتيولوجية،ومنفتح بنفس الدرجة على علوم الإنسان والمجتمع ومناهجها وتساؤلاتها كما هي ممارسة عليه اليوم في الغرب مذ ثلاثين سنة،كما أنه : تاريخ تطبيقي عملي في نفس حركة البحث ذاتها لأنه يهدف إلى تلبية حاجيات وآمال الفكر الإسلامي المعاصر وسد نواقصه منذ أن كان هذا الفكر قد اضطر لمواجهة الحداثة المادية والعقلية.[5]


السياسة : الجزء والكل



لا يمكن فصل وتجزئة أفكار أركون ومشروع النقدي،فهو مشروع متكامل ، تصير فيه السياسية كالأخلاق كالفكر كالحزب كالأيديولوجية،كلها فروع منبتها واحد. لدى أركون كل الأزمات بما فيها أزمة السياسة، الأحزاب،الأمم،الدول،المجتمع،الوطن،كلها ذات صلة بقضيتها الأم التي لا تجد الحل في الإصلاح أو في المواربة ولذلك نجده يشدد في أكثر من موقع وفي أكثر من كتاب أن الحل لكل الإشكاليات التي يعانيها العالم العربي والإسلامي، لا يكون بإعادة الهيكلة ولا بمشاريع التنمية أو بعقد اجتماعي جديد كما رأى البعض ولا في فصل صارم للسلطات بالمفهوم المونتسكوي،بل يشدد أن الحل هو حل راديكالي جذري وعدا ذلك هباء،فالحل يكمن في إعادة تنفيذ النقد التطبيقي وعليه يمكن البحث عن إجابات تسد الثغرات المعرفية والمؤسسات والأفكار التي استوردناها جاهزة كونها لا تتلاءم والواقع العربي،ووفقه إن أي إصلاح لن يجيب على كل الإشكاليات لا القديمة ولا المتزامنة.

الدولة – الوطن– الحزب :

وصلاً مع كل ما ذكر،فإن الدول العربية الإسلامية اليوم هي نتاج هجين،فهي فاقدة لشرعيتها : " تحتاج اللجوء إلى الإسلام لتبرير حضورها وسياستها " [6]،فهذا التوفيق بين الخلفية الإسلامية والتراث الطاغي وبين الواقع المداهم بكل ما يحمله من تناقضات،إضافة للوصول الغير شرعي للحكم ولسياسة التسلط، يستوجب منها استحضار وتفعيل المخيال الإسلامي لإضفاء نوع من الشرعية كنوع من الترميق الأيدلوجي[7] على حد تعبير أركون،إن هذا التلفيق جاء نتاج الفراغ القانوني والمؤسساتي اللذان خلفهما الاستعمار،وبالتالي جاءت هذه الدولة الهجينة تحمل في جوفها استعارات غريبة منها ما تلقته من الأنظمة الشيوعية والآخر تلقته عبر التقليد المُدخل من الدولة المستُعمرة في مرحلة الاستعمار ذاتها.

إن هذه العملية هي ما يدعوها أركون بالمركب الأيدلوجي الدولة – الوطن – الحزب[8] ،فالدولة هي الناشئة عبر التقسيم الاستعماري،والحزب هو من خاض الصراعات للسيطرة على السلطة تحت شعارات استرجاع الهوية الثقافية والوطنية،التنمية،البناء،والوطن هو ما يُحاول زرعه في مخيال سكان هذه البلاد،عبر الضخ الإعلامي ...

قد يكون الحزب ( كالناصرية في مصر مثلاً 1952 ) قد أدى دوراً هائلاً مجيشاً للشعب بالعدالة والتقسيم الاشتراكي وتساوي الحقوق،بحيث نقل العدالة من بيئتها الإسلامية إلى بيئتها الاشتراكية،كما وأدت إلى وأد ملامح النهضة العربية الإسلامية في وقتها،لكن هزيمة 67 أدت إلى صرع القضيتان معاً،بمعنى أن الاشتراكية وفشلها مع ما حملته هزيمة ال 67،كانت قد قتلتها وقتلت معها النهضة التي كان لها من الممكن أن تولد وهي ما أدت إلى صعود التيارات الإسلامية بعدها بشكل غير مسبوق.

إن نفس الأمر ينطبق على الحالة الإيرانية ففشل الشاه في تحقيق آمال شعبه،وتحالفاته الغير مدروسة،هي المفسر للثورة الإيرانية التي استحضرت عبرها كل الخلفية التاريخية بحيث التأم المُتخيل الاجتماعي الأسطوري مع المُتخيل الراهن،وهو ما يظهر جلياً في حجم الآيات القرآنية والأحاديث وإسقاط الماضي على الحاضر ليصير الحاضرة فرصة أخرى مواتية يمكن عبرها كسب المرحلة التي خسرها الحسين ومن بعده الأئمة.

إن كل هذا الفشل الذريع للأيديولوجيات لم يساهم فقط في تنامي القوى الإسلامية بل نمت هذه القوى على حساب ظاهر الشعبوية[9] التي تجلت في رجوع ( المواطن - الفرد ) إلى قبيلته ،أو بيئته،ليندمج ضمن المقومات الثقافية والفكرية والشعبية للمنطقة في حالة تفتت للهوية الجماعية،ضياع للقيم،كمحاولة لبناء وعي قومي. هنا كانت الماكنه السياسية للعمل الشرس جاهزة من أجل إبقاء سيطرتها، تجلى ذلك في إضفاء المشروعية عبر تحويل الرأسمال الديني على وظيفة رسمية تابعة للدولة،وإهدار القيمة الروحية للدين.



على أثر الحالة السابقة بدأ الفقهاء بإعادة إنتاج التعاليم المذهبية كما راحوا ينشرون إسلاماً بسيطاً يلائم القيم المحلية والشعبوية والتي لا علاقة لها بالإسلام ذاته.

في موازاة ذلك،كان دين آخر يرتسم رسمياً هو دين الأيدولوجيات القومية التي قادت حروب التحرير الوطنية،ولأجل دمج السكان وإحكام السيطرة،كان على هذه الأيدولوجيات ضخ أفكارها وقطع القطاعات المجتمعية كالبربر مثلاً في الجزائر وغيرهم عن أصولهم الثقافية. ويصير التراث أداة للتسييس : " ولكن أيدولوجيا الكفاح تستغل هذا التراث كحافز للتجييش السياسي ضد الاستعمار الذي أراد محو الحضارة الإسلامية أكثر مما تستغله كموضوع للبحث العلمي الفعال ..."[10]  على وقع ذلك انقسم الإسلام الكلاسيكي وتشظى إلى عدة أرثوذوكسيات تمثل سلطات محلية وتوازنات مؤقتة.

أمام حالة التشظي نتيجة الشعبوية من جهة، والإيدولوجيا الموجهة، وفي ظل قطيعة قاسية من التراث السابق، راحت تنمو ظاهرة الإسلام، وراح الكثيرون يعتقدون أن هذا الإنتشار هو يقظة إسلامية، إلا أن أركون يسميه " إسلام الهروب "[11] ،فهو الملاذ من فشل الأيدولوجيات وتشظي المجتمعات،والهزائم المتكررة والحروب المشتعلة في أكثر من دولة عربية- إسلامية،إضافة لضغط القوى الإمبريالية والتناقضات الداخلية المريرة التي لم يتم تجاوزها.

بالتالي فثمة ثلاث مصاعب تتراكم أمام الوعي الإسلامي : أولها انغلاق الآفاق الفكرية الإسلامية مذ القرن الثالث عشر والاكتشاف البطيء للثقافة الغربية،ثانياً تعرجات وأزمات حروب التحرير،وثالثاً النضال ضد سوء التنمية ( التخلف ) وسط إطار عالمي تتزايد فيه مخاطر الحرب الأيدولوجية وضغوطاتها.[12]


بين السيادة العليا الإلهية والسلطة السياسية :


تكمن إحدى حلقات الصراع في التوتر بين السيادة العليا والسلطة السياسية، فالسيادة العليا هي التي تدعي امتلاك أو حيازة الحقيقة الذي يعني امتلاك سيادة ذات قانون الهي  وهي مشكلة من الفقهاء وعلماء الدين،لكن السؤال الملح والذي لا يفتأ يراود أركون،باسم من ؟ ومن هو الذي يخلع هذه المشروع، وعلى أي أساس يتم اتخاذ المحددات للنهج البشري ؟ ومن هو الذي يدعي امتلاك الحقيقة وحده ليصير كل التاريخ رهين مقولاته وتشريعاته ؟

إن الأمر يصير أكثر خطورة عندما يتم إغلاق دوائر النص ومجالات – احتمالات معانيه، لتتجاوز دائماً المعيار القانوني أو الشرعي وتحيل إلى الآله المطلق أو قُل تتصل بمطلق الله"[13]،من هنا تنشأ مغامرات المعنى[14]الذين يعتبرون الأوصياء على إيصال " حقيقة " متضمنة في المصحف،لكن السؤال من أذن لهم أن يحتكروا الحقيقة الدينية ؟

إن الأمر المهم في الأمر هو تلك التصفية التي قامت بها الأرثوذوكسية الإسلامية ( السنة والجماعة ) ضد العقول المنافسة والتيارات الأخرى ( الخوارج،الشيعة،المعتزلة ..) لترسيخ رؤيتها الدينية، هذا النجاح تم عبر التضامن الوظيفي بين أربع قوى : الدولة،الكتابة،الثقافة العالمة ( أي الثقافة الفصحى لمن يعرفون القراءة والكتابة ) والأرثوذوكسية الدينية.[15] وبالتالي فهي تخاطب الروح القلقة لتزجها في مداراتها باعتبارها مفتاح النجاح،وهكذا يكون الانتماء طوعي للهيبة التي تقدمها الأرثوذوكسية الدينية باعتبارها السيادة العليا في الإسلام فهي تستند إلى الخطاب القرآني فآية : " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول " تأويلها كافٍ لاصباغها وشرعنتها.

هنا  تبدأ أزمة السيادة العليا والسلطة السياسية،عبر نقل تطبيق السيادة العليا – الآلهية ليد الخليفة أو الإمام،هكذا نجد فقهاء الدين يغذون الوهم بامتلاكهم سيادة ذات قانون آلهي " في الوقت الذي توظف فيه دولة الخلافة أو السلطنة أو الإمارات المختلفة هذا الوهم من أجل أن تمارس سلطة استبدادية مطلقة "[16].

هي إذاً سلسلة طويلة في التاريخ تحتاج إلى دراسة بنيوية شاملة، فهي التي بدأت مذ العصر التدشيني لتجربة الرسول،ومن خلالها تم أسطرتها وتعبئتها بالأفكار المتعالية،والرموز التي ارتفعت لمرتبة التقديس،ومن خلالها انطلق تبرير السلطات اللاحقة وصولاً إلى يومنا هاذا،عبر المدخلات التي يجب تتبع دقتها ومصداقيتها التاريخية فيما يخص الحكم والجماعة والأمة،هكذا شرع الأمويين سلطتهم السياسية كخلفاء الله في الارض،والعباسيين كقرابتهم من الرسول وألقابهم المعتصم،المتوكل ... وهي ذاتها يمكن ربطها بالحكام اليوم إما عبر النسب لرسول الله ( بعد ألف واربعمائة عام ) وإما عبر حيازة الحقيقة الدينية التي يمثلها علماء الدين وهم بدورهم فقهاء الوالي ! نفس المنطلق اتبعه جمال عبدالناصر فرغم اتباع الناصرية الايدلوجية الاشتراكية إلا أنها شددت على كون الإسلام أحد أسسها.

من هنا يرى أركون أن السيادة العليا – الآلهية والسلطة السياسية هي أزمة تؤدي إلى أخرى في كلتا الحالتين. فالسيادة العليا تحتاج إلى إعادة قراءة وإخضاعها للدراسة العلمية عبر مدارس التفكيك والانثروبيولوجيا الفيلولوجيا ( فقه اللغة ) والسوسيولوجيا .. كون بناء سيادة عليا يحتاج إلى مقومات علمية بحتة كي لا تؤدي في نهاية المطاف إلى فتح الباب للسلطة والاستبداد،فيما السلطة السياسية دوماً تضفي حلتها بالبعد الديني الذي يتوسل السيادة العليا عبر رزمة من الفقهاء المقربين بحيث يتم تحويل السلطة السياسية إلى سيادة عليا، خصوصاً وأن السيادة العليا كما تظهر في التاريخ العربي الإسلامي لها ثلاث أوجه :

·         الجانب الأيدولوجي: لتقوية شرعية الدولة

·         الجانب الأسطوري والمؤسطر : الادبيات، تحويل شخصيات بشرية لشخصيات ذات قدرات هائلة وخارقة : أبو بكر، عمر بن عبد العزيز، صلاح الدين، الظاهر بيبرز .

·         إلصاق السيادة العليا بالهيبة الشخصية : أي أنها دولة الرسول، احترامها وطاعتها يعني طاعة الرسول.


أزمة الدين والمجتمع :


تهيمن على المجتمع اليوم أزمتان رئيستان حساستان:

·         المقدس – الدنيوي أو بلغة القرآن دين – دنيا

·         القانون الديني ( الشريعة ) – الضلال[17]

في الحالة الأولى يشكل التعارض بناء كلي للواقع ضمن فصل مرتبط بالثنائيات المحددة للفعل والمنعكسة ضمن المجال التشريعي في ظل استشراء النقيضين خير –شر أو دار إسلام – دار حرب أو ثواب – عقاب .

فيما الحالة الثانية فهي تضع الحياة ضمن التعاليم الإلهية لتكون مطبقة لها،من هنا تحول الفقيه عبر الضخ الديني إلى محدد السلوك البشري في ظل إلغاء القرارات وتحديد سيرورة حياة الأفراد وفق رؤية القائمين على إدارة الشؤون الدينية كأوصياء وأمناء.

إن صعوبة تخطي هذه الأزمة في الحالة الإسلامية لكونه في التوجه الإسلامي ( المقصود الدين ) هو فوق المجتمع،وليس كما يراه العلم التاريخي والسوسيولوجي : " إن الدين هو نظام من المعتقدات والمحظورات يتلاقى مع الشأن الثقافي،والاقتصادي،والسياسي من أجل ( خلق ) المجتمع "[18]

من هنا فقد ارتبطت هذه التعارضات ببراغماتية الدولة ووضعيتها في الفترة التي كانت تعمل في إطارها،وفي الصراعات وأوقات الحاجة كانت المؤشرات ترتفع وتنخفض.

إن نفس الحاجة التي فرضت إضفاء المشروعية،وتحويل شخصيات ورموز إلى شخصيات فوق تاريخية متجاوزة للزمان والمكان،أسطرة التاريخ الإسلامي وتحويله إلى نقاط مضيئة ورمي كل ما يشوبه ضمن استعداء التاريخ والاستشراق كل ذلك كان مرتبطاً بهذا البناء الذي تماهى في زج المسلم في الثنائيات وزرع القلق الروحي في جوفه.نقول،نفس الحاجة ما تزال وفق أركون تعمل داخل المجتمعات الإسلامية فمن خلالها يمكن تفسير الانتعاش الذي يشهده القانون الديني – الشريعة في عدة دول كمصر وباكستان وإيران والمغرب وغيرهم،فهو يشهد على : على ديمومة الأشكال التقليدية للإحساس والفهم،وهو يعبر عن حاجة الحكومات إلى الاحتماء بالشريعة لتبرير عنفها.

وسيبقى زمام الأمر محكماً طالما لم يتم تحرير فكر المسلم من كل هذا الثقل الذي يرزح فوقه،وسيبقى مشبعاً بالقلق في كل خطوة يتخذها،وفي كل أمر،من هنا فإن المعركة كما يقول البعض : " تحرير السماء لا تحرير الأرض " فتحرير الفرد المسلم من كل هذه الأثقال التي تلقى عبر الموروثات والتي لم تبنى على قيم حقيقة بل تحتاج إلى دراسة،هي كلها بحاجة إلى تحرير الفرد المسلم كي يعيد بناء ذاته.


الحداثة والعلمنة:


لا يتوانى أركون عن مهاجمة الحداثة باعتبارها هجمة،باعتبارها تدخل غربي عنيف بدء أولاً بشكل عسكري،ثم تحول نحو الانقلابات البنيوية والهيكلية،وتجلت ردة فعلها في العالم الإسلامي العربي بالخطاب المعاكس تماماً أدى بتحيزه ونقصه إلى الرفض الكلي للعلم الاستعماري .لكن أركون يعود إلى أن يتفهم نوعاً ما تلك النزعة الحداثية كونها تعادي المناخ الثقافي والأبعاد القيمية التي تبلور ضمنها هذا الفرد،خصوصاً التصورات الغربية حول الحضارة الإسلامية والتي تعادي وتطلق المصطلحات المهينة " كظلمات العصر الوسيط "،وهو ما يتجلى في الطمس الغربي لإنتاج الحضارة الإسلامية بشكل واضح في المؤلفات الأكاديمية التاريخية في أوروبا.

في إتجاه آخر،يوجه أركون الإنتماء بانه لا يمكن التسليم بتفوق حضارة على أخرى ضمن التفاوت الزمني والأقدمية التاريخية،كما أن حداثة الغرب لم تستطيع التحرر من الميتافيزقيا الكلاسيكية وهي تحملها في جعبتها احياء اللاعقلاني وللخرافات.[19]

ثمة أمر آخر،وهو اهتمام التركيز على القضايا السياسية في العالم العربي الإسلامي،وتناسي التاريخ الاقتصادي والاجتماعي،وترسيخ قلب وعكس الأدبيات الكولنيالية.

لكن الإشكالية تبقى بين التحديث والدين الشعبي،بين النهوض وثقل التاريخ والتراث مع كل ما يحمله من مشوبات تحتاج إلى الغربلة.

إن مواجهة الحداثة تتطلب بناءً ذاتياً،عودة إلى الخلف،قراءة التاريخ والفكر والدين،مذ لحظة التدشين الأولى للخطاب القرآني،مروراً بمرحلة القراءة فالتفسير والتأويل،وصولاً إلا الفقهاء وإغلاق النص ليتحول إلى مرجعية نهائية لا مجال لفك إضبارتها.أما الاستقبال الكلي للتوجه الغربي فإنه لن يكون إلا تدميرياً ينعكس داخلياً وخارجياً في كل ما نراه اليوم من حركات متعصبة وتدخلات إسلامية عنيفة مردها عدم وجود مصالحة حقيقية في الحيز السوسيولوجي والبسيكولوجي،مروراً بجملة من الضغوطات والأزمات الاقتصادية والمادية،وربطاً بانحياز للماضي وللتاريخ والتراث بشكل غير مدروس مبني على تعاليم مشكوك بصحتها وواقعيتها ومدى تحققها.

من هنا يحذر أركون من التهميش والخنق للفئات البسيطة،عبر التحديث والحداثة في آن،وعبر المضي في التطوير دونها،فإن لم تدمج الشرائح الاجتماعية الممتدة في المناطق الفقيرة تحول كل إبداعها إلى فولكلور،موسيقاها،بيوتها،بناها،رقصاتها،أغانيها،مأكولاتها،وبالتالي كلما بقيت خارج إطار أدوات الحداثة كلما ازداد خطر اندثارها،ولكن الخطر الآخر يكمن في التحديث الغير مدروس الذي يفتح بوابة الإغراء،وقطع الصلة مع الماضي،مما ينمي ثقل الإرث المربك،وبالتالي فإن الحداثة لا بد وأن تتشكل ضمن حالة وسطية مدروسة.

للخروج من هذه الحالة يقتضي الأمر محاولة الوصول إلى الحقيقة وهو ما لا يمكن دون العولمة فالعولمة هي : " موقف للروح وهي تناضل من أجل امتلاك الحقيقة أو التوصل إلى الحقيقة "[20]،بالتالي فهو لا يحاول القضاء على الجانب الروحي تماماً بقدر ما يسعى لإنصاف الجانب المادي،خاصة أن الآخرين ضخوا البعد الروحي لغيرهم واستأثروا بالمادي لذواتهم،وبالتالي فالدعوة ليست لعلمانية متطرفة ستأخذ المجتمع لذات الطريق التي سيقوا إليها سابقاً بل علمنة معتدلة تخلق روح التفكير والإبداع والحرية.

كان يمكن للعالم في العالم العربي الإسلامي أن تأخذ مركزاً مهماً، فقد برزت بذورها الأولى في عهد المأمون لكن السلطة السياسة ونتيجة التغيرات التي حلت بها وحاجتها الماسية لإسباغ الشرعية ساهم في تعزيز الروحانيات لتنتهي العلمانية الإسلامي في سقوط قاس.


إشارة :

على أثر كل ما ذكرناه،ومن خلال القراءة للمشروع الأركوني، يظهر أركون كمفكر صارم،إحدى أضخم نقاط القوة في فكره ومنطقة هو ذاك الإطلاع والانفتاح على كبار فلاسفة الغرب،بالإضافة إلى إلمامه بالتراث والفكر والفلسفة الإسلامية والعربية،هذا المزيج المتضاد هو من ولد لديه ذاك التوجه المتعدد المناهج،فهو من القليلين الذين أجادوا القراءة ذات المناهج المتعددة فقد استخدم في مشروعه الفلسفي : المنهج الأركيولوجي،المنهج التفكيكي،المنهج الانثروبيولوجي،المنهج السوسيولوجي،المنهج اللساني،المنهج البنيوي،المنهج التاريخاني،المنهج الأبستمولوجي.

في كل كتاب من كتب أركون تتجلى صرامته في المنهج،فقد كان مخلصاُ للعلم إلى نهاية الدرب،وهو ما يمكن رؤيته في كونه توجه لقضايا لم يكن لأحد أن يتجرا عليها من المفكرين المسلمين بعد أن نادى بقراءة فيلولوجية للقرآن،وإزالة القدسية عن الخلفاء والفقهاء وزجهم في دائرة التشكيك وإخضاع كل إنتاجهم للمناهج أعلاه وفق دوائر الإنتاج والتجليات.

في تاريخية الفكر الإسلامي يكون أركون قد فتح معركة فكرية مع المفكرين الإسلاميين،لا يمكن مقارنتها بتلك المناظرة بين الغزالي وابن رشد،فتح من خلاله حقول معرفية،وطرح أسئلة مغرقة في النسيان،فيما عزز مفهوم التأويل والأسطورة،الأدب،الشعر،اللغة،التاريخ،الفكر،علم الاجتماع الاقتصادي،التاريخ الاجتماعي الاقتصادي،البرجوازية الإسلامية في القرون الأولى. لكن الجدير ذكره هو ذاك التوجه التاريخي ضمن قضايا : اللامفكر – المنسي – المحجوب،والتي من خلالها ينادي بإعادة قراءة التاريخ وفق هذه الثلاثية بحيث يتم إعادة بناء الأسئلة ما الذي حجبه التاريخ والمؤسسة القائمة على نقله وتدوينه ؟ وما الذي نسيناه عبر التراكم الزمني وتراكم الحوادث والمعلومات ،وماذا عن الأمور التي لم نفكر بها ؟ كأن تفكر في عدم قطع عمر بن الخطاب لأيدي اللصوص في فترات القحط،هو إذاً خروج عن النص الديني الصريح نحو التعامل مع الواقع هي قضايا لم يُفكر بها،فيما المستجدات التي لم نفكر بها أكثر،حقوق الإنسان ؟ الحداثة ؟ تساؤلات يطرحها أركون في كل فصل ليعصف الذهن ويفتح بوابة الأفكار على مصراعيها.

أما في كتاب الإسلام الأمس والغد ، يغوص أركون في قضايا الهوية الإسلامية،الدين،المجتمع،التاريخ،الكلي،المجرد،الإسلام الأمس والغد،يعرج في خلالها أركون على قراءة منهجية تتنوع بين المناهج التي ذكرناها سابقاً.

كما يحاول أركون طرح ذات التساؤلات في ذاك السؤال القاسي :  أين هو الفكر الإسلامي المعاصر ؟ ليعيد الكرة بين فيصل التفرقة وفصل المقال،بين الفقهاء التقليديين وبين العقل الذي يحاول التحرر من سلطة النص الدين والانغلاق في سياج الدوغمائي نحو فضاءات المعنى بحثاً عن حقيقة تنصف العقل والدين معاً.

أما حقوق الإنسان وتلك الرغبة الجارفة في إقامتها والانصياع لها،وذاك الرفض لتسييسها والهجوم على الغرب الذي يتدخل ضمن هذه الرؤية المؤدلجة الموجهة تحظى بغضبه الذي يتجلى في كتابه نحو نقد العقل الإسلامي[21] والذي يشكل خلاصه أفكاره وربما مقولاته الأخيرة في مشروعه الذي سينتهي بعده.

محمد عابد الجابري


مشروع بحجم دولة .. مشروع دولة




نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف : فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها ..
محمد عابد الجابري،تكوين العقل العربي ، ص 8
 
" الجابري مشروع بحجم دولة " بهذه العبارة افتتح عباس بيضون مقالته حول وفاة الجابري في صحيفة السفير صباح الرابع من أيار 2010، مستحضراً الجابري كرمز للفيلسوف الشقي من الفقر إلى أروقة الجامعات ومنابر الفكر والفلسفة طارحاً مشروعاً جدلياً سيفتح نقاشاً لن ينتهي. لم يكن بيضون وحده من سينعاه، إذ سيخرج نخبة مفكري العالم العربي والإسلامي لنعيه، وعلى رأسهم : صادق جلال العظم، جورج طرابيشي، عبد السلام بن عبد العال،هشام جعيط .. وآخرون[22].

لم يكن أحد يعرف أن هذا  " الخياط " الصغير، او طالب الرياضيات، سيكون ذات يوم أحد أهم مفكري العالم العربي، سواء اتفقت مع أفكاره أم لم تتفق فالحكمة في إعادة الموضوع المنسي إلى سدة النقاش، والجرأة لمن يفتح الأبواب المغلقة.

لم يتوزع الجابري في المناهج الفلسفية بقدر ما توجه نحو المنهج الأبستمولوجي ( التحليل المعرفي ) منادياً بفصل الايدولوجيا عن الأبستمولوجيا في قراءة التاريخ،وهو ما يعني إعادة قراءة كل التاريخ بفكر نقدي معرفي معرياً كل ما التصق به من أدران.

إن توجهاً جريئاً وصلباً كهذا، كان يعني أن على الجابري أن يبدأ بنفسه بتطبيق المنهج وليس الوقوف على أعتاب التنظير،بهذا بدأ رحلته الأبستمولوجية بـ نحن والتراث مستحضراً رموز الفلسفة الإسلامية ( الفارابي – ابن سينا – ابن باجة – ابن رشد – ابن خلدون ) وقد كان ذلك بعد أن قدم مدخلاً تاريخياً هائلاً أستحضر فيه بنية المعرفة السائدة في الجغرافيا العربية الإسلامية آنذاك مع كل الآثار  الفكرية اليونانية، الفارسية، المانوية ،المزدكية ،الزاردشتية،الأفلاطونية الحديثة، مطلعاً على كل ما وصل من إرث تاريخي، وبعد أن يفكك كل فلسفات العصور القديمة يبدأ بمطابقة فكر الفلاسفة العرب مع ترسبات الفكر الدخيل ليخرج الثابت والمتغير ، الايدولوجي الأبستمولوجي في الفكر العربي الإسلامي.

وفق ذات المنهج الأبستمولوجي سيكمل الجابري مشروعه الضخم في نقد العقل العربي،عبر جملة من المفاهيم التي سيقولبها ويطورها لأجل نجاعة مشروعه،بحيث أنه أعاد دراسة تاريخ الفقه والشريعة واللغة،تاريخ القبائل والمعارك،تاريخ الأمراء والملوك،وذهب أبعد من ذلك عندما مضى في إعادة قراءة المخطوطات الأصلية للفلاسفة المسلمين ودراستها وبحثها وعلى رأسهم إشرافه على تحقيقات علمية لنشر المخطوطات الأصلية لإبن رشد وإخراجها إلى النور[23].

بدأ مشروع الجابري الفلسفي مذ العام 67 حين بدأ مدرساً للفلسفة في كلية الآداب بالرباط،ولكن مشروعه الأهم والذي سيحدث ضجيجاً ودوياً في العالم العربي يبتدئ عام 80 بعد إصدار كتابه نحن والتراث،ليفجر النقاش بعدها بقليل على أثر إصدار رباعيته نقد العقل العربي والتي كانت عبارة عن مجموعة مكونة من أربعة كتب : تكوين العقل العربي،بنية العقل العربي،العقل السياسي العربي، العقل الأخلاقي العربي.

ستفتح هذه الكتب على أثر صدورها نقاشاً هادراً يمتد من الشرق إلى الغرب، وفي الداخل الأوروبي ذاته، البعض تقبلها بانغماس شديد والبعض بحذر والبعض كفره ووصفه بنافث السموم، لكن عبارة صادق جلال العظم على أثر وفاة الجابري كانت تحمل الواقع الذي لا يمكن تجاوزه : " إن كل مفكر سواء اتفق مع الجابري أم لم يتفق، فقد تأثر به ". فعلاً ولد الجابري نقاش زخماً في العالم العربي والإسلامي،وإن كان هو صاحب الفضل فليس لأن غيره لم يكتب،لكنه أولهم فرغم صدور " نقد العقل الإسلامي " لأركون عام 84 إلى أن كتبه صدرت بالفرنسية واحتاجت عدة سنين لتترجم على يد هاشم صالح لتوزع في العالم العربي،ورغم ذلك بقيت محصورة النشر نظراً لصعوبة اللغة، وتنوع المناهج الأمر الذي ساهم في عدم اتساع رقعة توزيع الكتاب.

إن توجه الجابري للمنهج الأبستمولوجي  من جهة، ووجوده في المغرب العربي ومتابعة لتطورات العالم العربي،إضافة لتاريخه السياسي كمناضل في الحزب الاشتراكي هذه العوامل كلها ساهمت في أن يكون الجابري قريباً أكثر من القضايا السياسية ومتابعاً لها ومن أن تشغل حيزاً أكبر في تفكيره وإنتاجه، لذا في قراءة الجابري يمكن بناء رؤية عامة حول توجهه السياسي يشمل الكثير من القضايا الجزئية والمباحث المهمة.

يبقى نهاية قولنا أن الجابري بالفعل كما قال بيضون هو مشروع بحجم دولة، فقد أنجز مشاريع فكرية أعظم مما قدمته دول عربية كاملة، لكنا نضيف أنه أيضاً مشروع دولة، فمن خلال أفكاره يمكن بناء دولة تحمل كل مقوماتها فوق بنية معرفية وأرضية سياسية قوية عبر كل الأفكار التي يحاول الجابري عبرها إعادة البريق للحضارة العربية الإسلامية،لذا فلم نر مبالغة في قولنا أن الجابري هو فعلاً مشروع بحجم دولة وهو مشروع دولة.

الجابري، ومشروعه الفلسفي


نحن لا نمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرر مما هو ميت أو متخشب في كياننا العقلي وإرثنا الثقافي، والهدف : فسح المجال للحياة كي تستأنف فينا دورتها وتعيد فينا زرعها ..
محمد عابد الجابري،تكوين العقل العربي ، ص 8



لم يستطع المفكر العربي جورج طرابيشي تأجيل قراءته لكتاب الجابري  " تكوين العقل العربي " إلى ما بعد سفره، لما قرر ترك بيروت بعد أن أنهكته الحرب الأهلية هناك، ولم يخرج من بيروت أواخر ال 84 إلا بكتابين كان أحدهما كتاب الجابري الذي قرأه في الطائرة، وكتب يومها : " هذا الباحث ذو مستوى أوروبي،وليس محض باحث عربي "[24] وبغض النظر عن الخلاف الفكري بينهما إلا أن طرابيشي قد اعترف بأن الجابري أخرجه من سياجات الايدولوجيا إلى فضاءات الأبستمولوجيا ( المعرفة ).

" نقد العقل العربي "، كان هذا المشروع من أوائل المشاريع العربية الضخمة التي قد نذهب بصورة راديكالية إلا اعتبارها عنوان " نهضة جديدة " قد تبرز ملامحها في السنين القادمة.

الجابري كغيره من مفكري المغرب العربي، تأثر بالمفكرين والفلاسفة الفرنسيين، وكغيره من مفكري القرن الماضي تأثر بالثورة الفلسفية التي قادها فلاسفة فرنسا وعلى رأسهم ميشال فوكو، جاك داريدا، رولان بارت، كما تأثر بالسابقين منهم كفرويد ويانغ. إلا أنه لم يسع نحو تطبيق المناهج الفلسفية النقدية بالخط الذي ذهب فيه غيره بل سعى نحو تبيئة ( إن صح التعبير ) وملائمة المفاهيم والأدوات التحليلية للخصوصية العربية الإسلامية في محاولة لعدم الهوي في شرك الإسقاطات لتلافي أخطاء علمية قاتلة.

في خضم قراءة الجابري يتراءى حجم الاختلاف بينه وبين المفكرين الذين تأثر بهم،وهذا ما يبرز في مطلع كل كتاب من كتابه حين يقدم مدخلاً فلسفياً محكماً للآلية النقدية التي يمضي في خضمها فاصلاً بين المنهج والرؤية،هذا ما نراه في أسلوب الفصل والوصل الذي يعتمده في نحن والتراث[25]، كما نلاحظه في كتابه تكوين العقل العربي ينحو نحو دراسة الفكر كأداة للإنتاج وليس بمفهوم الفكر المتداول تلافياً للسقوط في المجال الايدولوجي التي يعتبر الفكر بالمفهوم المتداول رديفاً لها.

من هنا يتجلى حجم مشروع الجابري الضخم في استحضار الأدوات التحليل الغربية ومدارس النقد الفلسفي ومناهج البحث التحليلي وتبيئتها وملائمتها للواقع العربية الإسلامي ومن ثم المضي في تطبيق هذه المفاهيم والأدوات بعد أن صارت معاول قادرة على الحفر ( بتعبير ميشال فوكو : حفريات المعرفة ) في البنية العربية الإسلامية. وهو ما يمكن ملاحظة في العقل السياسي العربي المبني على " تعريب فكري" إن صح التعبير لنظرية يانغ في اللاوعي إذا بنى من خلالها نظرية اللاوعي السياسي في الحضارة العربية الإسلامية التي تتجلى من خلال القبيلة وأثرها في صنع التحالفات السياسة مذ عهد الرسول.[26]

من خلال تفكيك الجابري لبنية العقل العربي توصل إلى ثلاث عناصر : البيان، العرفان، والبرهان. البيان يشمل النظام المعرفي الذي يندرج في إطاره الفقه،التشريع،علم الكلام،البلاغة ، فيما العرفان وهو المبني على التوجه العرفاني الإلهامي المنغمس في معرفة الله والطبيعة من خلال التأمل والمعرفة والذي يتمثل بالمتصوفين والمدارس الباطنية ( الشيعية نموذجاً ). أو البرهان الذي يبني معرفته على النظام المعرفي العقلي ويدرج في إطاره المنطق والفكر العقلي الذي يمثله الفلاسفة.

من خلال العناصر الثلاثة التي ذكرناه، يبدأ الجابري تفكيك بنية العقل العربي،في دراسته للثقافة كمجال للصراع الأيديولوجي وإلى هذه المحددات كعناصر انطلق منها الفاعلون الأساسيون في التاريخ العربي الإسلامي من فقهاء وفلاسفة وخلفاء وهو بدوره يحاول الإمساك بذاك التوتر الحاصل والذي أفرز تاريخنا الحديث بكل ما يحمله من إشكاليات وتناقضات.

لم تكن نقطة انطلاق الجابري من قراءته كغيره من المفكرين،بمعنى أن الكثيرون عادوا بدراساتهم إلى ما قبل التاريخ الإسلامي المؤرخ بالهجرة، بل ذهب الجابري إلى اعتبار عصر التدوين هو المرحلة التاريخية التي تنطلق منها الدراسة،وهي بدورها تقرر في إحالتنا إلى الماضي السحيق وردنا إلى ما بعدها،ففي خضمها تبلورت كل المدارس الفقهية واللغوية،علم الكلام،السيمياء، المنطق، الصراع بين المعتزلة والأشعرية ، صراع الفلاسفة مع الفقهاء ... والتي هي وحدها تقرر ردنا إلى دراسة الماضي لما تستوجب ذلك لدراسة أثر الصراع القديم من مدارس فلسفية قديمة إلى أثر الأفلاطونية المحدثة،مدرسة حران المشرقية القديمة، مدرسة بغداد، مدرسة البصرة ( والصراع اللغوي بين المدرستين ) آليات البناء اللغوي من قياس الجزء على الكل، الكل على الجزء .. الخ، هي كلها مجالات وحدها تقرر الحاجة لقراءة مرجعيتها التاريخية ومن هنا كان الجابري قد أسس موقعاً للتقدم في دراساته.

بعد حصره لعناصر العقل العربي، توجه نحو التخصيص الأكثر عمقاً ، في الفكر واللغة والأدب والفقه، نحو أكثر حصراً فنراه في نقده من أن العقل السياسي العربي تكون من ثلاثة مركبات : العقيدة، القبيلة، الغنيمة، ولا تزال هذه الثلاث مركبات هي الفاعل والمؤثر في الحياة السياسية العربية إلى يومنا.وبالتالي فإن الأولى أي العقيدة هي المحرك للروح الجماعية وروح الجماعة في العالم العربي والتي بدورها غير مبنية على أسس عقلانية إذ تراكم عليها عبر التاريخ مدخلات غير عقلانية،إضافة لجملة من الخزعبلات،فيما القبيلة هي الناشط في الحقل الاجتماعي حيث تلعب دوراً هائلاً في سلوك ذوي المصالح وفي تركيبة التحالفات السياسية والقبلية، أم الغنيمة فهي توجه الاقتصاد العربي الذي لم يخرج عن منهج الغنيمة في جبي الضرائب فيما الإنتاج معطل كما يعني من جهة ثانية أن الرزق والكسب هو من  باب القدر لا من باب الجهد.

من خلال هذه القراءة الضخمة الشرسة المتوترة، يرى الجابري بعدها إمكانية تحقيق النهضة، فإن التعتيم الذي لا يزال يمارس، ومن خلال التاريخ " المدرسي " الذي لا يزال ينتج دون تحليلي منطقي وعقلاني للأمور، وعبر الضخ الأيدولوجي الذي لا يزال يتراكم ويُغيب المواقع الموجبة للدراسة يتراءى حجم الخطر الملحق بالحضارة العربية الإسلامية.

كانت هذه خطوات كبيرة قد خطاها الجابري، لكي يبني عليها لاحقاً نظرياته في العولمة والثقافة والحداثة،وأزمة الخطاب العربي المعاصر، ولم يتوانى عن تقديم آراءه في القضايا المستجدة من أحداث 11 أيلول مروراً بحقوق الإنسان والديمقراطية، حتى أدنى القضايا كان الجابري يشارك فيها العالم العربي كقضية أزمة لعبة كرة القدم بين مصر والجزائر التي قدم فيها رؤية سوسيولوجية . وكان لمجلة فكر ونقد التي أسسها وضم إليها نخبة من مفكري العالم العربي أثراً جلياً في الثقافة المغربية خاصة والعربية عامة.

كل هذه القضايا كانت برؤية الجابري قضايا تبقى مرتبطة بذاك التاريخ الذي لا يفتأ يتحرك داخلنا ويحركنا،وعليه كانت خطوة الجابري التي سيختم بها مشروعه الفكري قبل أن يغيب، كانت برأي الكثيرين أجرأ وأعنف خطوة يمكن لمفكر عربي أن يتجه نحو، وهي : " مدخل إلى القرآن الكريم " وجزء ألحقه به : " افهم القرآن الحكيم : التفسير الواضح حسب ترتيب النزول " والتي أعاد من خلال قضية الاجتهاد الديني والخروج من قفص العقائدية نحو رحابة المجال الديني والذي يعتبر إحياءً كان قد غاب طويلاً عن الساحة العربية الإسلامية. فقد رفض التفسير التقليدي للقرآن وبنى نظرية تحليلية تقضي التفسير الداخلي للقرآن تارة، والربط بالسياق والمناخ الثقافي للحظة نزولها، كما أوجب الفصل بين السور المكية والمدنية،والتوجه النقدي نحو الروايات المكررة مذ ألف سنة على لسان المفسرين أمثال الطبري وابن كثير.

ما نجمل به قولنا في هذا الجانب، أننا ننحو نحو اعتبار الجابري فيلسوفاً دون إنقاص، فإذا كان المفكر هو من يعيد دراسة النظريات وتطبيقها، وإذا كان الفيلسوف هو الأداة المنتجة للنظرية، فإنا برأينا نرى أن الجابري استحضر النظريات الغربية لكنه ولأجل ملائمتها للخصوصية العربية الإسلامية قد حرف بها وغير كثيراً منها لتصير نظريات جديدة لا تمت لسابقتها بشيء ، من هنا نذهب إلى خلاصتنا بان الجابري هو أول فيلسوف عربي مسلم يظهر إلى النور بعد وفاة ابن خلدون.

الجابري ..وفكره السياسي


انخرط الجابري في خلايا العمل الوطني في بداية خمسينيات القرن الماضي،إذ كان قياديا بارزا في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي ظل يشغل لفترة طويلة عضوية مكتبه السياسي، قبل أن يعتزل العمل السياسي ليتفرغ لمشاغله الأكاديمية والفكرية،وقد برز هذا في التابين العظيم الذي حظي به الجابري في تشييعه الأخير فقد نعاه الملك محمد السادس ببرقية لم يسبق لشخص أن حظي بمثلها،كما أبنه كبار قيادات حزب الاتحاد الاشتراكي.

بغض النظر عن النوايا،فإن الشواهد وحدها كافية لأن تفسر ذاك الترابط العميق بين الجابري والسياسة مذ فترة مبكرة،وهو ما لا يمكن تجاهله في تكوينه الفكري إذ سنرى أثر السياسة والتجربة الخاصة تقف شاخصة في جوانب مشروعه.

بعد اعتزال الجابري للعمل السياسي وانطلاقته الفكرية، كان يفتش عن شيء ما هناك، في مكان بعيد جداً، وكان سيحتاج إلى قراءات كثيرة ليجد ضالته،لكن المحاضرة التي بثتها الإذاعة المغربية عام 57 هي التي أضرمت النار في جوف الجابري لتضرم بحثاً وتوقداً لن يطفأه سوى الموت.

في شعبة الدراسات العليا في جامعة الرباط كان الجابري يعد رسالته حول ابن خلدون بتوصية من الدكتور محمد عزيز الحبابي، لكن الجابري لن يهدأ بحثه فقد أنجزه، لكنه لم يشعر انه أنجز ما أراد،ليعيد البحث فيه، ولينتهي كتاباً فكرياً جديداً يطرح نظرية إبن خلدون بوجها المشرق ووجها المظلم،نقداً منهجياً مُحكماً،وليتوج كتاباً في عام 1971[27].

سيكون بعد هذا الكتاب توجه نحو الفلسفة بذاتها، ومن ثم نحو إشكاليات التعليم في المغرب، مروراً بالمشكلة الفكرية والتربوية، كل هذا كان يؤشر إلى توجه واحد أن الجابري مسكون بقلق معرفي أضخم ما يغرف منه ويشتغل فيه، كان هذا الهاجس هو الذي سيكتشه بعد الثمانينات هاجس التراث، التراث بما يحمله من إجابات مقلقة ومن حاجة الهضم لأجل التجاوز.

أصدر الجابري عام 1982 أحد أهم الكتب التي تشير إلى أفكاره في الجانب السياسي : " الخطاب العربي المعاصر "، وإن كان أصدر بعده في الجانب السياسي كتب ك : " وجهة نظر، نحو إعادة بناء قضايا الفكر العربي المعاصر " ، و " قضايا في الفكر المعاصر "، لكن قيمة الكتاب الأول تكمن في توقيته، وفيما جاء بعده.

خرج  كتاب " الخطاب العربي المعاصر : دراسة تحليلية نقدية " إلى النور عام 1982، وبغض النظر عن كل الظروف السياسة والاجتماعية والفكرية للفترة التي صدر فيها الكتاب إلى أن من كتبه وما كتب بعده هو المهم، كان الجابري منخرطاً في شبابه بالسياسة، وكان هذا الكتاب بعد أن صار الجابري متقناً لأدوات التحليل وعارفاً بها، عاد إلى حقله السابق أي إلى السياسة، ولكن لم يعد هذا المرة قائداً سياسياً ولكنه جاء مفكراً نقدياً طافحاً بالنقد والغليان ليهاجم بأطروحاته الفكرة كل الأيدولوجيات والتوجهات الفكرية السابحة في الفضاء العربي من سلفية إلى قومية،ماركسية،اشتراكية ... ولينعتهم جميعاً بالفاشلين،وليعلن فشل الخطاب العربي.

قيمة هذا الإعلان تتخذه من جانبين الأول بما حملته من تحليل عقلاني صريح وجريء يحاسب الذات ويراجع المسؤوليات ويلقي بالأحكام المنطقية بتحليل نقدي صارم ومنهجي،والقيمة الثانية هي أنه قد عرف مكمن الفشل، هناك فيما يسمى العقل، ليعود بعد هذا الكتاب بمشروعه " نقد العقل العربي " وحين يفكك بنيانه ويشرحه ويخضعه لنقد مستفيض، سيعود بدوره للقرآن وليعيد فتح باب الإجتهاد المغلق مذ القرن الرابع عشر.

بعد هذا المسار الطويل يفتتح الجابري موقع مجلته الإلكترونية، وليحملها هناك عبأ الفكري العربي، ولينشر فيها مقالاته وأفكاره في السياسة والفكر والفلسلفة، من هنا تكون تلك الدورة الضخمة التي دارها الجابري من النقد السياسي الفكري عودة إلى بنية العقل العربي وإلى مرجعيته المقدسة " القرآن " عودة إلى واقعه السياسي.

يمكن من خلال قراءة الجابري تشفي عدة مناطق ناقش فيها الفكر السياسي وآليات اشتغاله ومناطق عمله وأسباب تخبطه وإمكانات أو شروط نهضته وبالتالي نقسمها وفق العناوين التي اختارها هو بذاته له، أو نختارها على اعتبار أنها تصلح لأن ندرجها كعناوين نقرأ أزمة الفكر السياسي لدى الجابري- من خلالها.

العقل السياسي العربي :


ظهر كتاب الجابري : نقد العقل السياسي العربي "[28] عام 1990، تتويجاً لمشروعه نقد العقل العربي، بحيث يتتبع الجابري بذور التوجه السياسي العربي مذ عهد الرسول وصولاً إلى العصر العباسي.

يرى الجابري في إطار نقد للعقل السياسي انه يجدر أولاً توظيف مفاهيم وتبيئتها دون إسقاط فظ لها، من هنا أدخل مفهوم " اللاشعور السياسي "[29]، الذي يحكم الظاهرة السياسية من الداخل،على صعيد التفكير والممارسة.

ينطلق الجابري في إطار تحليله بأن المفاتيح والمحددات لقراءة التاريخ السياسي العربي الإسلامي هي ثلاثة :

-        القبيلة : وهي ما عبر عنه ابن خلدون بالعصبية، بحيث أنها المدخل لفهم التحالفات وأنظمة القرابة والعلاقات المتشكلة بين القوى الاجتماعية وهي لا تكمن فقطة في القبيلة بل تتسع دائرتها نحو عصبية الموقع الجغرافي وعصبية الفئة.

-        الغنيمة : وهي التي تتجلى في العامل الاقتصادي من الضرائب والخراج والفيء والزكاة،وعلاقات الطبقات الاجتماعية وتشكلها، وأنماط الإنتاج والاستهلاك،وآليات صرفها وتوظيفها واستخدامها.

-        العقيدة : وهي الصورة الأيديولوجية التي يتجلى من خلالها الاعتقاد ومنطق الجماعة وتحويل هذا الاعتقاد إلى توجهات ومذاهب : فرق دينية،طرق ،طوائف.[30]

عبر التحليل التاريخي الذي يقدمه الجابري، يبين أثرها هذه المحددات في تشكيل الوعي السياسي العربي، يطالب ب :

-        تحويل القبيلة إلا لا قبيلة : نحو تنظيم مدني سياسي عبر بناء مجتمع مدني حقيقي تفتح فيه المؤسسات والجمعيات والنقابات أبواباها لإعادة تشكيل المجتمع وتكون درعاً فاصلاً بين الحاكم والمحكوم.

-        تحويل الغنيمة إلى إقتصاد : في ظل أنظمة ريعية لا يرى الجابري أنه قد تم الخروج من سلطة الغنيمة فهي لا تزال كما كانت بنى تالفة ورثة، تحتاج إلى إعادة بناء وهيكلة لتكوين نظام اقتصادي.

-        تحويل العقيد إلى رأي : تفتح به حرية الرأي للخروج  من التفكير المذهبي الطائفي المتعصب الذي يحتكر الحقيقة الدينية، نحو تعدد الآراء وتقبل الآخر.[31]

النهضة والسقوط :


كان من أوائل القضايا الفكرية التي عالجها الجابري مطلع الثمانينات قضية النهضة، التي شغلت باله وتجلت نتائجها من خلال البحوثات التي قام بها، والتي خلص فيها بأن ثلاثة أطراف هي التي تحدد تصور العرب للنهضة : النموذج الأوروبي ، النموذج العربي الإسلامي، و " الانحطاط " [32]. الأمر المثير للتساؤل هو تلك الصورة التي يبنيها المفكرين فكلهم ينطلقون من رؤيتهم للنهضة من خلال غياب الآخر،والكل من قوميين وسلفيين يرون في أن على حضارتهم أو قوميتهم ريادة العالم وفي كلا الانطلاقتين عودة إلى التاريخ، عودة إلى ذلك المخزن الذي يوفر زاد المحاججة بشكل دائم. ليبقى الخطاب العربي تعبيراً عن : أحوال نفسية وليس عن حقائق موضوعية ولا عن تطلعات خاضعة للرقابة العقلية.[33]

من هنا جذور الأزمة الحادة التي سببتها هزيمة 67،لأن الكل كان يعتاش على حلم فلم تكن سوى هزيمة جديدة يخسرها العرب والمسلمين أمام إسرائيل لكن قيمتها تكمن في قيمة خطاب الحلم والأمنية الذي كان يتغذى به العرب طيلة الفترة التي سبقته.

يقول الجابري : " إن النائم الذي ينام ليلته ليصحو في الغد، يستطيع أن يتابع مسيرة حياته كالمعتاد .. أما أهل الكهف أو من هم في معناهم فلا تكفيهم " الصحوة " لمتابعة مسيرة الحياة، بل يحتاجون إلى تجديد عقولهم أولاً حتى يستطيعوا أن يروا الحياة الجديدة على حقيقتها "[34] ، عبارة تلخص الحاجة الملحة برأيه للنهضة ليس من خلال الصحوة التي يدعيها السلفيين بل من خلال تجديد العقل المتوقف مذ قرون.

الأصالة والمعاصرة :


تكمن  هذه الإشكالية برأي الجابري بتلك الأزمة في التوفيق بين الأصالة – الحضارة العربية الإسلامية والمعاصر – الحضارة الأوروبية. فالبعض ذهب في شروط النهضة العربية إلى الجذور العربية الإسلامية ( الاصالة ) وإلى السلف الصالح – السلفيين،والبعض ذهب نحو طي صفحة التاريخ والفكر العربي الإسلامي والنهوض من خلال ( المعاصرة ) كل مقومات الفكر السياسي الغربي كالديمقراطية وحقوق الإنسان وفصل الدين عن الدولة وغيرها ،وبالتالي فالجابري يرى أن كلا مفكري عصر النهضة كانوا سلفيين من ليبراليين إلى سلفيين، فالسلفيين يذهبون بالسلفية في الاتجاه الإسلامي والليبراليين هم سلفيي النمط الغربي ( بمعنى العود إلى السلف الأوروبي : فولتير، روسو ..) وعليه ففي الحالتين هو خطاب ينطلق في الإجابة عن أزمة الحاضر من خلال الماضي السحيق، وكلاهما ينطلق في مشروعه من بوابات الحلم لا من بوابات الواقع المعيش.

من هنا يتصدى الجابري لما يسمى بالخطاب التوفيقي الذي حاول المفكرين ترويجه على اعتباره أن يوفر الحنين والثوابت السابقة ويتماشى مع الواقع المعاصر، إذ يراه الجابري أنه لا يرى الواقع كما هو فهو يراه من منظور الواقع في مجاراة الواقع،وبالتالي فهو خطاب وعي مستلب[35].

الدين والدولة :


" إن الخطاب السياسي في الفكر العربي، قديمه وحديثه كان ولا يزال،في الأعم الأغلب،خطاباً غير مباشر،غير صريح "[36]،من هنا يرى الجابري أزمة الخطاب السياسي العربي الذي لا يمكن البحث عنه في القضايا السياسية بقدر ما يتجلى في القضايا الغير سياسية في تأويل القرآن والتاريخ لأجل البحث عن إجابات تكون إجابات سياسية بالأساس.

في ذات الاتجاه تتجلى الأزمة التي يعيشها العالم العربي الإسلامي في قضية الدين والدولة التي يتم البحث عنها في كتب التاريخ لا في اللحظة الراهنة،ويعاد ترتيب علاقة الدين بالدولة تاريخياً،ليتوقف النقاش السياسي ويتحول إلى نقاش تاريخي .! هذا في الاتجاه السلفي والأمر ذاته في الخطاب القومي الذي يبدأ بالبحث عن جذور العرب تاريخياً مما يأخذه نحو ترتيب الهويات والأولويات بين العروبة والإسلام وفي كلتا الحالتين تحول النقاش من سياسي إلى تاريخ أزمة في صلب الفكر السياسي العربي ارتداده الدائم نحو الخلف.وفي هذا الجانب يلح الجابري على ضرورة اتخاذ موقف سريع من قضية طرفي الصراع في مسألة العروبة – الإسلام أي بين القوميين الذي يرفعون إلى القومية إلى المستوى الأول وبين السلفيين أو من يرفع الإسلام إلى المستوى الأول : " إن كل واحدة منها محقة في ما تثبتن غير محقة فيما تنفي " [37]. وبالتالي فالمطلوب ليس إبداء وجهة نظر من كل طرف بل إعادة النظر لأنه ثمة التقاء وتوازي عنيف بين الحجج.

ونراه في كتابه وجه نظر يقدمه رأيه الصريح في قضية الدين والدولة ويخوض فيها تاريخياً ليرجع إليها سياسياً ويختم قوله  - بعد محاججة تاريخية ضخمة يسترسل فيها – بأن : " ليس هناك ما يبرر تحفظ بعض الحركات السياسية الإسلامية من الديمقراطية الحديثة[38].

كما يؤكد أن مشكلة الدين والدولة هي مزيفة كونها تخفي صراعاً لا تريد الكشف عنه وهو صراع الطائفية في البلدان العربية التي يقطنها أقليات مسيحية كلبنان وغيرها،وبالتالي إخفاءً لهذا الصراع تتذرع بصراع الدين والدولة وهي بدورها مشكلة نسبية لا تعم كل الدول العربية لكنها تتذرع بها لأجل التعتيم على غياب الديمقراطية.

كيف الخروج من هذه الحلقات المفرغة ؟ يجيب الجابري : الحاجة إلى بيان من أجل الديمقراطية ( ... ) يسبقه، أو على الأقل يرافقه بيان من أجل العقل .[39]

الديمقراطية والعلمانية :


إن قضايا التي طرحها الخطاب السياسي العربي كقضايا الدين والدولة وقضايا الإسلام والعروبة هي بالأساس من صرف الخطاب السياسي عن الخوض في قضايا " حقوق الأقلية " و " حقوق الأكثرية " وهي من يجعل من الخطاب متذبذب تارة يبحث عن الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية في صيغ جديدة  وليس في الديمقراطية ذاتها وهنا الحاجة الملحة ومكمن الموضوع،فالخوض في الديمقراطية يتطلب خوضاً في السلطة ومصدرها وشكل النظام الذي سيمارسها[40].

يختم الجابري في هذه القضية بالخلاصة المهمة : إن بنية الخطاب النهضوي العربي الحديث والمعاصر تقدم من داخلها ما يمنع صاحبها من الكلام عن الديمقراطية كنظام للحكم ونظام للمجتمع[41].

لكن ثمة قضية أخرى هي قضية العلمانية التي لا يتوانى الجابري عن الدعوة للاستغناء عن هذا المفهوم واستبدال شعار العلمانية بشعاري الديمقراطية والعقلانية[42] كونه يلتقي مع الحاجات العربية الإسلامية فالعلمانية مفهوم تبلور في أوروبا له خصوصته في الدلالة والسياق والإيحاء، أما لماذا الديمقراطية والعلمانية  ؟ : الديمقراطية تعني حفظ الحقوق،حقوق الأفراد وحقوق الجماعات، والعقلانية تعني الصدور في الممارسة السياسية عن العقل ومعاييره المنطقية والأخلاقية،وليس عن الهوى والتعصب وتقلب المزاج.[43]


الانعتاق :




كيف يكون الخروج من كل هذه الإشكاليات ؟ ومن أي يبدأ الحل ؟ يرى الجابري بأن حل كل الأزمات يبدأ أولاً من الديمقراطية التي هي مفتاح كل الأمور،وهو إذا يرى بنفس متفائلاً مؤمناً بان ( الطوفان ) قريب على حد تعبيره، فإنه يثير سخط أصدقائه في هذه القضية نظراً لتعليقه أهمية خاصة عليها وهو ما يمكن الإطلاع عليه في محاورته مع صديقه حول الديمقراطية.[44]

من أن البداية ؟ تكون من حركة تغيير في المجتمع العربي الراهن تقوم بتوحيد الصفوف من خلال جميع المكونات العصرية والتقليدية عمال وطلاب وحتى في المساجد ذاتها،تنطلق ككتلة تاريخية مبنية على المصلحة الموضوعية الواحدة التي تحرك في العمق ومن العمق.[45]

هذا في الجانب السياسي، لكن في الجانب الفكري فثمة مسؤولية ضخمة تتوجب القيام حيال التراث الذي لا يزال يشتغل في العقل العربي ويحكم تصرفاته وفق الأمس ويحدد ويقيد حريته وتصرفاته عبر خلق هاجس شقي يتعثر من خلال الفرد ليتحول إلى شخص يعيش مع الأحياء، من هنا لا يجب علينا إجترار التراث بل يجب علينا أولاً إعادة قراءته هضمه وتجاوزه تلك هي المعادلة التي يجب أن تكون ومن هناك تكون بداية النهوض الحقيقي في ظل ديمقراطية حقيقية .

إشارة :

من خلال العرض الذي قدمناه لأفكار الجابري السياسية، لا نقول أننا قد أحصيناها وجمعناها بين دفتي هذا البحث، بقدر ما حاولنا إبراز السمات الاساسية، ليتراءى لنا ضخم المشروع الجابري، فهو منهج قد حدد جدرانه وإنخرط يصارع كل زواياه وبنياته.

لقد قدم الجابري مشروعاً ضخماً وثراءً عارماً لما أقدم على نقد التراث إذ استوجب مراجع تاريخية وفقهية ولغوية هائلة، كانت تحتاج إلى مراجعات ضخمة قام بفرزها وتنصيفها ومراجعتها وهو ما يشفع له على اختلاف توجهاته.

في كل كتاب من كتبه كان الجابري يلح على ضرورة تفعيل العقل ضد ما أسماه حالة " العقل المستقبل " في الحضارة العربية الإسلامية، لذا بدأ بمشروعه نقد العقل العربي الذي رأى به أمراً ملحاً خاصة بعد أن تجلى أمامه حجم الفراغ الذي يعاني منه التوجه النقدي.

من إبن خلدون الذي فتح باب التساؤلات على مصراعيه، نحو الانخراط السياسي ،كان باب الأسئلة يتشعب ويتوسع لينطلق لاحقاً حازماً أمره في مشروعه الضخم نقد العقل السياسي ومشروع قراءة في القرآن.

لا ندعو للقبول بأفكار الجابري، بل ندعو لزرع الهاجس في البحث عن توجهات مختلفة تخلق المناخ الفكري الذي سيقول شروط النهضة القادمة.

كثيرون نقدوا الجابري، وعلى رأسهم طرابيشي الذي تتبع المصادر التاريخية المشكلة لمحاججة الجابري ناسفاً قسماً منها، ومؤيداً قسماً آخر وبغض النظر عن الثغرات هنا وهناك وبغض النظر عن كل ما يمكن أن يقال، يبقى الأساس المتشكل هو البنية التي يمكن الانطلاق من خلالها.

بين الجابري وأركون




من خلال قراءة مقارنة لفكري الجابري وأركون يتجلى العديد من الاختلافات بينهما نحاول حصر بعضٍ منها :



في الجانب المنهجي :


·         إشكالية المنهج : تعتبر إشكالية المنهج إحدى الفروقات بينهما، ففي حين يذهب الجابري بمنهجه الأبستمولوجي إلى أقسى مراحل تطبيقه ، يذهب أركون بجملة مناهج علمية تفتح آفاق البحث العلمي في كل توجهاته .

·         الخلاف المنهجي على صعيد المفهوم خلق إفراز من خلال التطبيق والنتائج، فالمنهج الأبستمولوجي فرض على الجابري أن تكون الثقافة العالمة هي الثقافة التي يمكن من خلال استقراء التاريخ وتركيبه لبناء حقيقة جديدة، في حين أركون وانفتاحه على المذاهب حدا به إلى طلب إعادة قراءة وفهم لغات الأقليات في الحضارة الإسلامية، في موازاة اللغة الفارسية والتركية ودراسة ثقافة الأقليات وما تحويه من تراث.

·         هذا يقود للحديث حول الشخصيات المحورية في نقد كل منهما، فنرى أركون لصيقاً بالتوحيدي كرمز للفيلسوف المهمش المغترب،فيما نرى الجابري قرين لإبن رشد كرمز للفيلسوف العقلاني ذي الشهرة والسيط، هذا يعكس الرمزية القابعة في داخلة كل منهما، فالجابري لصيق الثقافة العالمة كما أسلفنا ومنظراً للعقلانية، فيما أركون لصيق بالأنسنة الإسلامية عبر روادها ومهمشيها.

·         على صعيد مقابل فاختيار المنهج يبلور الأداة من هنا تتراءى نصوص أركون استكشافية لا تحمل إجابات صارمة، ولا تدعي أنها قد وصلت إلى مصافي الحقيقة أو قاربتها، فيما نصوص الجابري تبدو مغلقة كأنها حملت أجوبة شبه مؤكدة، من هنا يتزاوج المنهج والرؤية عند الجابري.

·         كما يبدو أركون متمرساً حقيقياً وقارئاً مشبعاً بالفلسفة الأوروبية مع ضعف تراثي وهو ما يتجلى بتكرار ملحوظ للعديد من القضايا والمواقف كرسالة الشافعي التي يوردها ذاتها في كتابين، فيما الجابري يبدو أقل تماسكاً منهجياً لكنه يبدو متمرساً في قراءته للتراث وإلمامه بقضاياه وإشكالياته وتجلياته.



في الجانب الشخصي :




·         لا يمكن فصل الحياة الشخصية لكل منها عن توجهاته، فأركون الذي عاش حياة قاسية مهمشة ولدت لديه نقمة ستظهر في مشروعه وانتماءاته الفكرية،فكونه ينتمي لعائلة بربرية كان عليه أن يتعلم العربية لكي يدرس إضافة للفرنسية[46]، في مقابل الجابري الذي ولد في كنف عائلة عربية عريقة،ولد نوعاً من المفارقة الفكرية بين كليهما،فالأول توجه نحو العقل العربي ،والآخر توجه نحو العقل الإسلامي، كما أن الأول كتب بالفرنسية والثاني كتب بالعربي.

·         ندرج قضية اللغة بشكل منفصل نظراً لأهميتها، فالجابري قد حاز على شهرة واسعة أكثر من أركون نظراً لكتابته باللغة العربية وسهولة لغته، فيما أركون كتب بالفرنسية وكانت كتبته تنشر متأخرة بلغة صعبة كونها تحمل مضامين فلسفية ومنهجية يجهلها الكثيرون،ولكن باتجاه آخر كانت هذه إحدى النقاط التي لا تصب في خدمة أركون،فمن خلال اللغة يحكم على المفكر لأي ثقافة ينتمي هذا ما ساهم في زيادة أرصدة الجابري الذي كتب بلغته، والكتابة بلغة تعني الانتماء إلى اشكاليتها، من هنا يصير أدوار سعيد مفكري أمريكي بالدرجة الأولى ثم فلسطيني كذلك أركون وكذلك عبد السلام بن عبد العال، وأمين معلوف.

في الجانب السياسي :


·         رأى أركون بالمعتزلة رمز لمرحلة شديدة الأهمية باعتبارها مرحلة نمى فيها مناخ الأنسنة والتنوير، فيما اعتبرها الجابري لا تعدو كونها حاجة سياسية احتاجها الخليفة ولما ذهبت حاجتهم أفناهم من أتى بعده.

·         يرى أركون أن العلمنة قد برزت في مراحل معينة من التاريخ الإسلامي وأخدمت،فيما يرفض الجابري الفكرة من جذورها باعتبار العلمنة ذاتها فكرة لم تنشا في مناخ إسلامي واقترح فكرة : الديمقراطية-العقلانية.

·         يظهر أركون ممارساً للنقد بعقلية المفكر العلمي الصارم بحيث لا يمكن أن يهوي في ثغرة الأيدولوجيا، في حين أن الجابري تظهر مضامينه الأيدولوجية في العديد من كتاباته بمعنى أنه يحاول توجيه القراء نحو قناعات يراها ونحو اعتناق أفكار هو يعتنقها.

·         نرى أركون يذهب نحو نقد السيادة العليا ومسائلة من يقرها وباسم من ولمن تكون، فيما يصمت الجابري عن هذا الجانب ويذهب على القبيلة باعتبارها المحرك وحين يتحدث عن العقيدة فلا يبدو جاداً في إثارة الانتباه لهذه القضية بل من خلال عرضها تبدو ثانوية.




المراجع :       




 


أركون, محمد. الإسلام ، الأمس والغد. Translated by على المقلد. بيروت: دار التنوير, 1983.

—. العلمنة والدين ( الإسلام، المسيحية، والغرب ). Translated by هاشم صالح. بيروت: دار الساقي, 1990.

—. تاريخية الفكر العربي الإسلامي. Translated by هاشم صالح. بيروت - الدار البيضاء: مركز الانماء القومي، المركز الثقافي العربي, 1998.

—. من فيصل التفرقة إلى فصل المقال : أين هو الفكر الإسلامي المعاصر. Translated by هاشم صالح. بيروت: دار الساقي, 1993.

—. نافذة على الإسلام. Translated by صياح الجهيم. بيروت: دار عطية, 1997.

—. نحو نقد العقل الإسلامي. Translated by هاشم صالح. بيروت: دار الطليعة, 2009.

الجابري, محمد عابد. الخطاب العربي المعاصر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 1994.

—. العقل السياسي العربي ( 3 ) . بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 2007.

—. بنية العقل العربي ( 2 ). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 1996.

—. وجهة نظر. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 1992.

تكوين العقل العربي ( 1 ). بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية, 1994.

سعيد, نايلة أبي. التراث والمنهج بين أركون والجابري . بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر, 2008.



مواقع الكترونية :

موقع الأوان : www.alawan.org







جدول المحتويات































[1] محمد أركون،تاريخية الفكر الإسلامي،ص27
[2] محمد أركون،من فيصل التفرقة إلى فصل المقال – هل من فكر إسلامي معاصر ؟ ، ص27
[3] محمد أركون،نحو نقد العقل الإسلامي،ص 6
[4] محمد أركون،من فيصل التفرقة إلى فصل المقال – هل من فكر إسلامي معاصر ؟ ، ص114
[5] محمد أركون،تاريخية الفكر الإسلامي،ص 11
[6] محمد أركون،نافذة على الإسلام،ص 190
[7] المرجع السابق
[8] محمد أركون،من فيصل التفرقة إلى فصل المقال – هل من فكر إسلامي معاصر ؟ ، ص150
[9] محمد أركون،من فيصل التفرقة إلى فصل المقال – هل من فكر إسلامي معاصر ؟ ، ص152
[10] محمد أركون،تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص 33
[11] محمد أركون،تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص 115
[12] محمد أركون،تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص 138
[13] محمد أركون،نحو نقد العقل الإسلامي،ص 90
[14] الفكر العربي الإسلامي، ص20 محمد أركون، تاريخية
[15] محمد أركون،من فيصل التفرقة إلى فصل المقال – هل من فكر إسلامي معاصر ؟ ، ص 59
[16] محمد أركون، تاريخية الفكر العربي الإسلامي، ص 171
[17]  محمد أركون،تاريخية الفكر العربي الإسلامي،ص 199
[18] محمد أركون،الإسلام الأمس والغد،ص 189
[19] محمد أركون،الإسلام الأمس والغد، ص 102
[20] محمد أركون : العلمنة والدين ( الإسلام، المسيحية، والغرب ) ص 10

[22] http://www.alawan.org/ يمكن مشاهدة مراسيم النعي كافة في الموقع الفلسفي الأوان والذي يشرف عليه نخبة مفكري العالم العربي :
[23] راجع الخبر في صحيفة القدس العربي بعنوان : الجابري يفوز بجائزة ابن رشد للفكر الحر للعام 2008، 21 أكتوبر 2008
[24] راجع مقالة طرابيشي : ربع قرن من الحوار بلا حوار ،6 أيار 2010 ،في موقع الأوان الالكتروني
[25] نحن والتراث، محمد عابد الجابري، ص : 20 - 30
[26] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص : 14
[27] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة : معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي، 1971
[28] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، 1990
[29] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص 10
[30] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص 50 - 51
[31] محمد عابد الجابري، العقل السياسي العربي، ص 374
[32] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 24
[33] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 32              
[34] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 39
[35] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 61
[36] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 66
[37] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 20
[38] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 94
[39] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 83
[40] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 101
[41] محمد عابد الجابري، الخطاب العربي المعاصر، ص 101
[42] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 102
[43] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 105
[44] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 126
[45] محمد عابد الجابري، وجهة نظر، ص 133
[46] نايلة أبي نادرن التراث والمنهج بين الجابري واركون، ص 452

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق