الثلاثاء، 19 يوليو 2011

ساراماغو، مجاز البصر واستعارات البصيرة


ساراماغو

مجاز البصر واستعارات البصيرة


فادي عاصلة 

هل كان ساراماغو يعرف أن هذا الشقي الفقير، صانع الأقفال  - هو ، سيصير ذات يوم أحد أبرز وجوه الرواية البرتغالية ؟ وهل كان يعرف أن ذاك الروائي الناشئ الذي ترك الكتابة عشرين عاماً جاهداً في تطوير نفسه بعد أن فشلت مجموعته الأولى سيصل إلى مصافي العالمية ولتصير روايته العمى من صفوة الروايات الإنسانية ؟

ففي روايته العمى يبدع ساراماغو في أسلوب سردي أفقي، متسلسل ومتصاعد، يجيد ابتداع الذروات، كما يفلح في تشويق القارئ وشده من لحظة الالتقاء الأولى بين القارئ والرواية، كما الحوارات والمداخلات بين الشخوص التي تتميز بقصرها، واندماجها في الحالة السردية المندمجة مع الفضاء الروائي المتين.

تبدأ الرواية بشخص يعمى أثناء توقفه أمام الشارة الكهربائية الحمراء في الشارع، ومن ثم يفقد بصره فجأة، عماً غريباً لا يشوبه السواد كما في العمى العادي بل النقيض التام، فهو عمى لا يرى فيه الأعمى سوى اللون الأبيض الحليبي، كما يصيب العمى الشخص الذي يساعده، ويصيب لاحقاً الطبيب الذي يفحصه أثناء مطالعته للمراجع العلمية الكبرى للبحث في سر هذا المرض، كما يصيب فتاة، وطفل صغيرة وعجوز ذي عصابة على عينه، ثم يتعدى العمى هذه المجموعة ليجتاح البلاد.

يتم حجر المجموعة الأولى من العميان في موقع خاص، تحت إشراف الجيش تحت ظروف رقابية مجحفة، ولا إنسانية، إلا أن زوجة الطبيب تدعي العمى وتدخل إلى المحجر مع المجموعة الأولى، وخلال تفشي المرض تبدأ حافلات من العميان بالانضمام، لتتفاقم هناك صراعات العميان، وتكون في إطار ذلك زوجة الطبيب هي عين المجموعة وهي منقذهم في أكثر من موقف.

تقوم امرأة بحرق المحجر تمرداً على عصابة من العميان، فينتشر الحريق، مما يضطر المجموعة الأولى للتوجه إلى للجيش، إلا أن الجيش لن يردهم أو يساعدهم لأنه ببساطة قد عمي أيضاً، عندها يخرجون إلى المدينة لتكون كلها مصابة بالعمى، وهناك يبدأ الصراع من أجل إيجاد الطعام والحياة، وفي نهاية الأمر يسترد العميان أبصارهم شيئاً فشيئاً حتى يعود للجميع بصره.

يتبادر للذهن سؤالٌ أولي، من هم عميان ساراماغو ؟ وما يقصد بالعمى الوباء الذي يجتاح هذا البلد دون سبب مباشر، ويتركه دون سبب مباشر ؟ ربما يمكن تلقف بعض الإجابات التي يطرحها سارماغو كمداخلات سريعة في إطار الرواية ، إذ " إن ما نسميه عمى هو ببساطة شيء ما يغطي مظهر وكينونة الأشياء " ( ص19 )، إنه الوعي إذاً، كشف للأشياء، وبحث في كنتها، وهو أيضاً شجاعة ومواجهة إذ " قد يسبب الخوف العمى " ( ص158 )، كما أن هذا الإقدام يحتاج لأمل، إذا أن غياب الأمل كغياب البصر،" فالعمى هو أن تعيش في عالم انعدم فيه كل أمل " ( ص245 ).

إن المعرفة هي نقيض العمى، بما تحويه من مركبات إنسانية وفضائل، مبنية على مبادئ خيرة ونيرة، هي البصر الذي يقود الإنسانية، مرجعياتها الضمير الأخلاقي، " إن الضمير الأخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى وينكره آخرون كثير أيضاً، هو موجود وطالما كان موجوداً " ( ص32) كما أن " الخير والشر المتأتيان عن كلماتنا أو أفعالنا متكافئان " ( ص100 ).

تحاول الرواية البحث إذاً في المشكل الإنساني الكوني ككل، من هنا يظهر غياب أسماء الشخوص في الرواية، فيظهر التمييز بينهم من خلال وظائف أو مميزات محددة : الأعمى الأولى، الطبيب، زوجة الطبيب، الطفل، الفتاة، العجوز ... إن رسالة سارماغو لا تخص إسماً بعينة بقدر ما تخاطب الذات الإنسانية وهو ما أجاب به أحد الشخوص في الرواية وهو الكاتب حين سُأل عن اسمه قال : " لا يحتاج العميان إلا اسم، فأنا هو صوتي وكل ما عداه لا يهم " ( ص336 ).

كما أن الذات الإنسانية التي يحاول ساراماغو سبرها، قد ترتبط نوعاً ما بالعمر أو الوظيفة إلا أنها في النهاية يجمعها الثابت أكثر من المتحول، من هنا يغيب الفارق بين زوجة طبيب وعاهرة، وبين فتى وعجوز، أو بين طبيب ومريضه.

على وقع ما ذُكر تتحول أزمة العمى، ليست إلا حالة فردية، بقدر ما هي حالة خلقها النظام العالمي الجديد، ونرى ساراماغو يشير في أكثر من موضع بصورة إشارية تحيل إلى ذاك النظام الرأسمالي الجشع، ليتساءل : ،" كيف انتزع الأوغاد الأقوياء الخبز من فم الضعفاء " ( ص247 )، وعليه نرى الطبيب يمر وزوجته بجانب مجموعة يحاولون إقامة تنظيم، يحوي بدوره مفاهيم كــ : " الملكية الخاصة، السوق النقدية الحرة، اقتصاد السوق، تبادل المواد الخام، فرض الضرائب، الفائدة، التخصيص، الإنتاج، التوزيع، الاستهلاك، العرض والطلب، الفقر والثروة، الاتصالات، القمع والجنوح، القواميس، إدارة الهاتف، شبكات البغاء، مصانع السلاح، القوات المسلحة، المدافن، الشرطة، التهريب، المخدرات، ترخيص التجارة غير المشروعة .... " . ولكن هذا التنظيم بما هو لن يحيل إلى شيء سوى العدم، فهم عميان، وقد ذكر سابقاً أن التنظيم الأعمى لشعب أعمى هو " عدم يحاول تنظيم العدم " ( ص296 ).

إن هذا النظام الاجتماعي غلف الأشياء، وأسبغ الجهل على كل شيء، ولكن الإنسان يتعود على كل شيء، هكذا استطاع العميان أن يأكلوا الجثث، وأن يعيشوا في مدينة من القيء والغائط والغربان والكلاب، " إن الناس يتعودون أي شيء، لا سيما عندما يكفون عن كونهم بشراً " ( ص262 ). وبالتالي في غمرة هذا العالم يتيقن الإنسان إلى قيمة الأشياء التي لم يفرد لها يوماً جانباً من الاهتمام وهذا ما حدا بمجموعة العميان حينما وجدت الماء، وقد غدت حاجة صعبة المنال، حيث " ملأت الكؤوس كأنها تؤدي طقساً شعائرياً " ( ص322 ).

ربما لم يكتب ساراماغو أفكاراً جديدة، لكنه استطاع إيجاد الكلمات المناسبة لصياغة هذه الأفكار، وهو ما تنبه له أساساً فقد " اكتشفت أن الفكرة موجودة هناك، في مكان ما، وأن الكلمات فقط هي التي كانت مفقودة " ( ص185 )، هل كانت رواية العمى إحدى تجليات هذه العبارة ؟ إلى حد كبير نعم.

واحدة فقط في المدينة لم يطلها العمى، هي زوجة الطبيب، هي عين الجميع، وهي رمز التفاني والإخلاص، هي التي قدمت الغالي والرخيص في خدمة الآخرين، وهي التي حاولت أن تكون دوماً العين المبصرة، تغض الطرف عن عوراتهم، وعن المواقف المخجلة التي تخلقها وضعيتهم، ولم تتجاهل أحداً بقدر ما خاضت نضالاً مذ لحظة رفضها ترك زوجها يزج في المحجر وحيداً مروراً بقتلها زعيم عصابة العميان، وصولاً إلى بحثها في المدينة عن طعام للمجموعة، إن المرأة زوجة الطبيب هي رمز الوعي الذي لا يمكن أن يفنى من العالم، رمز يتجاوز الشخص نحو فكرة الانتماء الإنساني، والضمير الأخلاقي المتوقد، فإذا ما ضاع يعني انطفاء كل أمل في هذا العالم.

تبقى الحوارية الأخيرة هي الرسالة الأكثر صدماً للذات، ومواجهة للسؤال :" لا أعرف لماذا عُمينا، فربما نكتشف الجواب ذات يوم .. أعتقد أننا عميان، بل أعتقد أننا عميان، عميان يرون، بشرٌ عميان يستطيعون أن يروا، لكنهم لا يرون ". ( ص379 ).

إن الحضارة الإنسانية الحديثة، هي حضارة مصابة بالعمى، حضارة تقوم على المفاهيم الرأسمالية المدمرة للذات الإنسانية، الساعية لتراكم الثورة، ولصهر الأجساد أمام أدوات الإنتاج، هذه الحضارة هي عمى حقيقي لم يعد بالإمكان تجاوزه، كان لساراماغو أن صوره مجازياً، من خلال إعادة خلق صورية مشهدية  تجسد الواقع الإنساني المتحرك داخل ذهنية ساراماغو.

لقد كان جوزيه ساراماغو، يحاول أن يرينا صورة ذهنية تتشكل لديه، صورة هذا العالم وما سيغدو إليه، جثث متفسخة في الشوارع ودم، قيح وغائط، روائح كريهة، هذا ما سيكون العالم عليه، لم يكن سبب واضح للعمى، ولن يكون حلٌ واضح له، فلم يفهم أحد كيف كان الخروج، لكن الواضح أن المجموعة خرجت من العمى من خلال امرأة متفانية، من خلال وعي متجاوز للأنا، مندمج مع الجماعة حد الموت، هي رسالة ساراماغو التي ربما أراد إيصالها.كأنه أعاد صياغة الفارق بين البصر والبصير، مشهداً ومعنى ...


الرواية : العمى لجوزيه ساراماغو، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى 2002، ترجمة محمد حبيب، عدد الصفحات 379.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق