الأحد، 12 يونيو 2011

الاعلام وقتل الحس الانساني

الاعلام وقتل الحس الإنساني
       فادي عاصلة


لا أحاول هنا ومن خلال هذا البحث التأسيس لنظرية جديدة،إذ لا يعدو ما أقوم به  أكثر من قراءة تحليلية محددة المعالم  بمعنى بناء إطار تجميعي يحاول أن يؤول وان يستقرىء ما كان قد قيل ببعده الإنساني الداخلي  وليس ببعده  المجتزئ ،أي محاولة ضبط هذه الجهات المتناثرة وفتحها على بعضها، في محورها المركزي  وهو الإنسان.

قد استطاع الإعلام وفي ظل التقنيات والتطورات أن يسيطر على جزء مهم من ( الإنسان ) المعاصر،كما أنه تحول إلى مصدر أساسي لمعرفته ومعلوماته وخبراته، وانثر بيولوجيته أيضاً في صيغة أكثر تطرفاً.

تقنيات وتطورات،وشاشات تلفزة،شبكة عنكبوتيه ومواقع الكترونية تتجدد على مدار الساعة،وبالرغم من كل التطور التقني والثورة المعلوماتية لوسائل الإعلام إلا أنها لم تستطع أن توقف القتل الممنهج والإرهاب الشامل بحق الإنسان أو تحد من انسياب الإنسان صوب نقيضه، بل عززت قيم القضاء عليه،ومهدت كل الإمكانيات لتدميره الداخلي،  فبات كنتيجة للإعلام يخسر ذاته أمام نفسه. ولم تسهم كل الثورة المعرفية والتكنولوجية في الحد من إقصاء الإنسان عن موقعه السابق، بل على العكس تحول الإعلام إلى صانع ومدمر للحس الإنساني داخل الفرد المشاهد.

ماذا خسر الإنسان وماذا بقي منه ؟ كيف يمكن لهذه الأجهزة أن تفقد الإنسان إنسانيته ؟ وأي فيلسوف سيستطيع قراءة القادم لتبشيرنا بإنسان المرحلة القادمة،أسئلة مقلقة تحمل إجابات أكثر قلقلاً ، لكن السؤال الأكثر أهمية والذي يحاول البحث أن يجيب عليه هل بالفعل الإنسان من خلال الإعلام والتكنولوجيا سائر نحو حتفه ؟

يحاول هذا البحث البسيط أن يظهر أعراض أزمة - يفضل الكثيرون تجاوزها والتأقلم مع الحالة المرضية- عبر البحث التوثيقي المكتبي،وعبر الدراسة النظرية تارة والاستدلال ببعض المعلومات والإحصائيات تارة أخرى،إلا أن الطابع العام هو الدراسة النظرية التفسيرية التوضيحية من خلال الطرح المنهجي للعديد من النظريات التي قد تكون جيدة لتوضيح ما نود قوله.

في المدخل الأول يقدم البحث مدخلاً تلخيصياً مقتضباً لمفهوم الإنسان من العصر الإغريقي مروراً بالعصر الإسلامي والأوروبي إلى يومنا هذا،مبيناً آراء أهم الفلاسفة  وبعض أفكارهم حول الإنسان والإنسانية كمحاولة استباقية لفهم فكرة الإنسان والإنسانية وحقوق الإنسان في المحصلة.

على أساس ما قُدم في المدخل الأول تأتي المداخل اللاحقة كعناوين يُدرج تحتها أشكال وأنواع القتل الإعلامي للإنسانية.

انطلاقاً من ذلك يحاول المدخل الثاني للبحث موقَّعة السمع والبصر وآلية العمل الإعلامي في واقعنا وآلية تعطيلهما لتمرير المُراد ،وهو ما يعد ضرباً من ضروب التدمير الفيزيائي والطبيعي للمكونات البيولوجية للجسم عدا عن كونها صفعة للعقل الإنساني وسيطرة عابرة للوعي، عبر آليات تقنية ومنهجية سنحاول قدر الإمكان لملمتها.

المدخل الثالث بدوره يعطي لمحة عن الصورة وأسلوبها الفج في تدمير المعاني وخلق حالات شعورية مبنية على استفزاز غير منطقي ولا أخلاقي للرائي الذي يقع تحت تأثير حالة من السلطة الآنية تكون رافعة مقيتة لاستقطاب الرائي وزجه في قبول الموقف المقدم بدون إجراء تحليلي للمعطى ضمن حالة من اغتصاب الزمكان على حساب الواقع الذي يصير رهن المُقدم.

من خلال هذه التقديم يمكن فهم أثر الإعلام في انتزاع واستلاب الفرد الإنساني من علاقاته الاجتماعية والعائلية عبر الشحن وخلق بديل اجتماعي يمثل فيه الفرد المتلقي دور حجر الشطرنج،كما أن خارطة العلاقات الاجتماعية يتم اختراقها وتغيير نسيجها عبر ضرب البنية الانتمائيه الواقعية والمفهومية للمتلقي وخلق صراع بين أفكاره الأولى والأفكار الثانوية المقدمة،مما يشكل صدمة أخلاقية وإجرائية تتبلبل خلالها المفاهيم والأفكار في لحظة تورط مقلقة يتأرجح فيها الإنسان بين تيارات متباينة، يرافق هذا خلق مساحة من إضاعة الوقت عبر التشويق الجاف يسوده انتزاع الفرد من أسرته بموازاة فتح المجتمع والبيت ذاته على العالم الخارجي بكل ما يحمله من تناقضات.

ولكن الإعلام ونظراً لعلاقته العضوية بالتكنولوجيا والعولمة فهو يعد رديفاً لهما ومُصدراً لقيمهما ضارباً بعرض الحائط كل الشعارات المُزيفة التي يقدمها ويجترها، مدعياً حوزة المعلومات كالرأي والرأي الآخر مقدماً العولمة بحلة إغرائية تخفي خلفها أنياب الرغبات وعنف المعاني والدلالات ولُعاب الاستهلاك.

عبر تدمير الحواس وتدمير الفرد والعائلة والمجتمع ومن ثم قتل الخصوصية الثقافية للشعوب كل هذا يجعلنا أمام واقع غير واقعي وأمام حالة فريدة من تاريخ الحضارة البشرية هي قتل للإنسان،ثقافته،معرفته،أفكاره، بكل المعايير، قتل البعد الإنساني ، وعبر عودة القارئ لما قدمناه في الفصل الأول من تعريف الإنسان فإن القاريء لما يقارن النتيجة التي وصل إليها الإنسان المعاصر، مع الإنسان السابق،سيكتشف أن لا علاقة بين الإنسان السابق وبين إنسان اليوم وستنجلي تلك الغربة بين الإنسان والإنسان.

على أمل أن يقدم هذا البحث المتواضع رؤية بسيطة يمكن أن تمهد الطريق لباحثين أكثر مراسا وجلداً  لإكمال ما عجز عنه البحث أو صاحبه.


الإنسان والإنسانية



يقول ابن منظور في قاموسه بأن : " الإنسان من إنسِيانٌ لأن العرب قاطبة قالو في تصغيره : أنيْسِيانٌ،فدلت الياء على الياء في تكبيره،إلا أنهم حذفوها لما كثر الناسُ في كلامهم ... وروي عن ابن عباس،رضي الله عنهما،أنه قال : إنما سمي الإنسان إنساناً لأنه عهد إليه فَنَسيَ ... والإنسُ : البشر،الواحد إنسِيُ،وأنَسيٌ أيضاً بالتحريك،ويقال : أنَسٌ وآناسٌ."[1] ( ابن منظور )[2]



فيما يُعَّرف الإنسان بيولوجياً بأنه عبارة عن كائن حي من فصيلة الثدييات،يتمتع بلغة وذكاء فائقين،له أطراف وأعضاء بيولوجية : فم،أنف،يد، ...

___________________



-         أريد أن أعرف غرض مجيئك ؟

-         لأجل اوتنابشتيم أبي،قد أتيت – لأجل من صار في مجمع الآلهة أتيت

أسأله عن سر الحياة والموت

-         ففتح الرجل العقرب فمه وقال :( متحدثاً إلا جلجامش )

-         لم يسبقك يا جلجامش أحد في هذا الطريق

-         ولم يعبر مسالك هذا الجبل إنسانا...



                          العمود الثالث في اللوح التاسع من النص الأصلي لملحمة جلجامش – 2800 ق.م[3]

              

أثار البحث عن معنى أو تعريف أو ماهية الإنسان الجميع على مر العصور،كان الإنسان هو ذاك اللغز المحُير والممتع في آن،وهذه القطعة التي اخترناها أعلاه،تعود لأقدم نص بشري مكتوب، يبين النص أعلاه أن ماهية الإنسان وماهية الحياة والموت كانت شغالة في الفكر الإنساني مثلما هي شغالة اليوم لا تزال تثير ذات التساؤلات ليومنا هذا .

فلاسفة العصر الإغريقي :



لم تكن العبارة الشهيرة المكتوبة على معبد دلف في أثينا القديمة : " اعرف نفسك بنفسك "،إلا مؤشراً عن هذا الحراك المعرفي الهائل، فيما سقراط كان الفيلسوف الذي لم يتنكر لأسئلته القاسية، وقد بدأ يتقلد وسامه الذي ابتدأ مع تصريح عرافة المعبد بأنه فيلسوف اليونان دون منازع.

 رأى سقراط أن أول العلم هو أن يعلم الإنسان جهله بكل شيء،وكان يقول : " ضمير الإنسان الخفي هو معيار كل الأشياء أو يجب أن يكون كذلك "[4] وبالتالي فقد دشن علم الأخلاق أو الضمير الأخلاقي وفق تسمية فرنسيس وولف [5] .



أما أفلاطون فقد تعدى معلمه : " البدن سجن النفس " وهي موجودة كعقاب بعد طردها من عالم الآلهة والحقائق "[6]  كما عرج عن النهج السقراطي ليربط الإنسان بالكون والطبيعة .فيما أرسطو جنح باتجاه آخر حين قال : " الإنسان حيوان سياسي بالغريزة ".فأدخل مفاهيم اللغة والعقل وهو ما تجلى باطروحاته في علم السياسة أو علم العلوم كما أطلق عليه[7] .لكن رغم كونه حيوان سياسي: وحده الإنسان لديه مفهوم الخير والشر والعدل واللاعدل ... ومن لديه هذه المفاهيم المشتركة بين الجنس البشري باستطاعته أن يجتمع في عائلة وفي مدينة[8] ، لكن هذا ليس كل شيء فثمة إضافات فلسفية مهمة في الإنسان قدمها لنا أفلاطون وسقراط واستوحى منها الفلاسفة العرب نظريات مهمة وسنشير إليها لاحقاً.



فلسفة الدين :




أعطت الديانات السماوية  قيمة خاصة للإنسان إذ جاءت برسالة ونهج واضحين، يجب على الإنسان أن يسير وفقها.كما أدخلت الثنائيات بعنف: الجنة – الجحيم، العقاب – الثواب، كافر - مؤمن...

أعطى الدين قيمة خاصة للإنسان لأنه موضوعه،ولأنه جاء ليموقع وضعيته وتفكيره ،تصرفاته وأخلاقه الأوامر والنواهي في المعطى الوجودي .

في الدين المسيحي يُصور الإنسان بأنه أكرم شيء بعد الله،فهو شبيهه، فقد " خلق الله الإنسان على صورته،على صورة الله خلقه" ( التكوين 28:1 )،إلا أنه أنقصه قليلاً عن الملائكة : "ما هو الإنسان حتى تذكره، أو ابن الإنسان حتى نفتقده؟.. قد نقصته قليلاً من الملائكة، بالمجد والكرامة كللته، وعلى أعمال يديك سلكته، وأخضعت كل شيء تحت قدميه"( مزمور8: 5- 7).

إن هذه القيمة العالية للإنسان في الفكر الديني المسيحي وفي الكتاب المقدس يوازيها مهام وواجبات وطقوس لكي يبقى الإنسان في هذا الموقع ،معرفة الحق،ومعرفة الحق تقود إلى الحرية التي يجب للإنسان أن يفتش عنها،ويورده إنجيل يوحنا على لسان أليسوع : " وتعرفون الحق والحق يحرركم " ( يوحنا 8 : 32 )فيما السجود واجب : " الساجدون الحقيقيون يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا "( يوحنا 4 : 25 ).

من هنا يقدم أليسوع عدة تعاليم لتلاميذه: لا تُدينوا لكي لا تدانوا. لأنكم بالدينونة التي بها تُدينون تدانون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى7: 1-2) فالرد واجب بمقداره،كما أن الصمت على الحق لا يجدي دوماً بل يجب تحديه: "أقول لكم انه إن سكت هؤلاء فالحجارة تصرخ (لوقا :40،39،19) كما أن النظام الاجتماعي له حضوره : "إن مرور جمل من ثقب إبرة أيسر من أن يدخل غني إلى ملكوت الله" (متى 19 :24).

في هذه الحالة فالخارجون عن الإرادة والعقيدة المسيحية سيكون لهم الجحيم : " أما الخائفون وغير المؤمنين والرجوسون والقاتلون والزناة والسحرة وعبدة الأوثان وجميع الكذبة فنصيبهم في البحيرة المتقدة بنارٍ وكبريتٍ الذي هو الموت الثاني " ( رؤيا يوحنا اللاهوتي 31:8 – 9 ).[9]

تبنت الكنيسة مبدأ التبشير بدين أليسوع ابن الله منقذ البشرية والشخص الذي جاء ليخلص الناس من بؤس حياتهم فمن دعاه استجاب له.مبشراً بحياة أخرى محذراً من إتباع الأهواء والشهوات وبالتالي فأتباع المسيح وتعاليمه هو الخروج من هذا الفراغ الموازي للذات الإنسانية.

أما في الديانة الإسلامية فقد ظهر الانسان على قدر كبير من التكريم ، وقد تكرر ذلك في عدة آيات ،فنرى في القرآن الكريم: ¥¤ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ¤ ( سورة التين،آية 4 ) وفي سورة السجدة : ¥ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ ¤ (السجدة،الآية 7)،نرى أيضاً تلك الصورة الجميلة له : ¥ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ  ¤ (التباغن،الآية 3 ).

كما يرى الإسلام ووفقاً للقرآن الكريم أن الإنسان مزود بنفخة روحية إلهية: ¥إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ ¤ (ص، الآيتان 71، 72).إضافة لذلك فهو مستخلف في الأرض: ¥ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ¤ (البقرة، الآية 30 ).وعليه فان الإنسان وفي خلافته للأرض يملك البدائل والخيارات ويميز بالعقل والإرادة : ¥ إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا {2} إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ¤ (الإنسان،الآيتان 2،3) وبالتالي فله الاختيار والإرادة بين الشكر والكفر بين الخير والشر بين العمل الصالح والعمل الطالح،ولما استخلفه الله في الأرض فقد سخرها له أيضاً : ¥ أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ¤ (لقمان،جزء من آية 20 ).

لكن ثمة خلاف بين الإسلام والمسيحية، إذ لا يوجد في الإسلام وساطة بين الفرد وربه، فالفرد وجهته الله مباشرة، له يتضرع وله يصلي وله يطلب ويستغفر: ¥ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ¤  (البقرة، الآية 186 ).

أكد الإسلام على العديد من الأوامر والنواهي،كمنع القتل إلا بالحق : ¥ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ¤ (الأنعام،آية 68 ) ومساعدة الفقراء والمحتاجين : ¥ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ¤ (الإسراء،الآية 26 ) ،وفي المقابل فتح الباب لحرية العقيدة : ¥ لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ¤ (البقرة،الآية 256 )



فلاسفة العهد الإسلامي العربي :




دام الجدل والنقاش في ظل سلطة الأديان،فتارة الفلسفة تؤثر وتارة تتأثر،تارة تصل حد القتل كالحلاج والسهررودي وغيرهم ، وتارة حد التمازج كحالة الكندي.وكل ذلك مرتبط بشخص الخليفة والمناخ الثقافي والديني في ولايته،إضافة لسند الفيلسوف الاجتماعي ضمن التراتب القبائلي والحظوة،ومدى جذوة الثورة في قلب الفيلسوف.

يقول الكندي : " إن الوجود الإنساني وجودان،أحدهما أقرب من وأبعد عن الطبيعة،وهو وجود الحواس التي هي لنا مذ بدء نشوئنا،وللجسم العام لنا ولكثير من عندنا أعني : الحي العام لجميع الحيوان،فان وجودنا بالحواس عند مباشر الحس محسوسة ... والآخر أقرب من الطبيعة وأبعد عنا وهو وجود العقل "[10].

في إطار قريب لكنه مختلف يرى الفارابي :" ( القوى،الملكات،الأفعال ) اذا حصلت في الإنسان عافت عن حصول الغرض المقصود بوجود الإنسان في العالم هي الشرور الإنسانية،القوى والملكات والأفعال التي اذا حصلت في الإنسان في العلم ، هي الخيرات الإنسانية. فهذا حد الخير والشر الإنسانيين "[11] . كما رأى أن : " كمال الإنسان في خلقه "[12].

أما ابن سينا : " اعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود محسوس،فاذا الإنسان من حيث هو واحد الحقيقة بل من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة،غير محسوس ،بل معقول صرف " [13].

الرازي بدوره تبنى تقسيم أرسطو للنفس بكونها ثلاث نفوس : نباتية،حيوانية،جسدية، كما اعتبر أن الطب الجسدي هو لعلاج البدن فيما الطب الروحي هو تهذيب الأخلاق،لذا نراه يشن هجوماً عنيفاً على النزعة الشهوانية : " العشاق يجاورون البهائم في عدم ملكة النفس "[14] ، ونرى بشكل جلي مدى تأثر الفلاسفة في العهد الإسلامي بالفلسفة الإغريقية ومدى تغلغلها فيه،ولكن فلاسفة العهد الإسلامي العربي استوعبوها ولائموها للواقع الإسلامي محاولة لإنصاف الدين والفلسفة معاً،قُمعوا أحياناً وخاصة في أوج الغزالي وكتابه تهافت الفلاسفة،ونجحوا تارة لما أعاد ابن رشد للفلسفة زخمها وهالتها بعد كتابه تهافت التهافت.

وعودة إلى الرازي فقد رأى كما الفارابي بأن الإنسان ولكي يصير إنساناً لا تغريه الملذات ولا تفسده الشهوات عليه أولاً إتباع الوسطية في الأمور ويورد كلا من الفارابي والرازي بعض الأمثلة المتشابهة في هذا الأمر كالمال إنفاقه بكثرة يصير تبذيراً وإنفاقه بشح تقتير بالتالي يجب إتباع الوسطية أي السخاء الذي يقع بين المرتبتين، إلى جانب الوسطية الاعتياد بمعنى اعتياد تنمية فضائل النفس والوقوف على وسطيتها،وهو ما نلاحظه لدى الفارابي في كتابه التنبيه على سبيل السعادة[15]،والرازي في كتابه تهذيب الأخلاق[16].

ثمة صوت مفجوع متمرد دوماً وهو أبو حيان التوحيدي الذي لم يتوانى عن حرق كتبه في ساحة بغداد العامة ، موغلاً في حدته المقهورة،مؤكداً أن : الإنسان مشكلة الإنسان ".

ولم يبتعد ابن طفيل عن التوحيدي كثيراً، لكنه  قلب فكره رأساً على عقب فلم يرى أن الإنسان حيوان ناطق بل : "  حيوان غير ناطق " ومضمون كتابه حي بن يقظان هو التعبير الاسمي لرؤيته.[17]

فيما ارتأى ابن خلدون بالإنسان كائن اجتماعي لا بد له من الاجتماع والتآزر لأجل الغذاء والدفاع عن النفس : " لأن الله سبحانه وتعالى لما ركب الطباع في الحيوانات كلها وقسم القدر بينها جعل حظوظ كثير من الحيوانات العُجم من القدرة أكمل من حظ الإنسان،فقدرة الفرس مثلاً أعظم بكثير من قدرة الإنسان،وكذا قدرة الحمار والثور وقدرة الأسد والفيل أضعاف من قدرته[18].



فلاسفة الغرب ...




ترافق بروز الفلسفة الأوروبية مع بداية أفول العهد العربي الإسلامي،فقد بدأت تلوح في الغرب ثورات معرفية في جميع المجالات من الاكتشافات الجغرافية والصناعية والاقتصادية ولم تكن لفلسفة البحث ضمن هذه الثورات إلا أن تأخذ نصيبها سؤال الإنسان عن نفسه بقي شغالاً في الوعي والمخيال الإنساني لكن الاهتمام بالإنسان تجاوز الميتافيزيقيا التقليدية فقد بدأ السؤال يدور حول الإنسان وعلاقته بالله وبالمخلوقات كان البحث يدور ضمن مركزية الذات الإنسانية وتقهقر ميتافيزيقيا الوجود أمام الموجود.

كانت عبارة ديكارت : " أنا أفكر اذا أنا موجود " مؤشر للنقلة النوعية التي ذكرناها سابقاً فقد بات استدلال الموجود عبر الفكر مدخل محاججي ، رأى ديكارت أن التفكير هو معيار وجودية الإنسان لقد كان الشك يأخذه إلى مسارات بعيدة ومتعبة وهدامة ،فنراه يقول : " نعم أنا أستطيع أن أشك في كل المحسوسات ،وأستطيع أن أكذب كل التعليقات،وأستطيع أن أشك في أنني أفكر،ولكن هذا الشك المسيطر علي يقتضي بالضرورة أيضاً أن أكون مفكراً ،قد أشك في كل شيء ،وأخلي ذهني من جميع الحقائق ،فأشك في وجود الأرض وسكناها،والسماء وكواكبها،وأتوقف عن كل حكم،ولكنه يبقى مع ذلك لدي شيء محقق،وهذا الشيء هو أنني أفكر.لست أستطيع أن أنكر أنني فكرت حين أشك،وإنني،عندما أفكر أو أخطئ في التفكير موجود بالضرورة،أنا أفكر إذا أنا موجود "[19] .

هي إذا تأسيس للفلسفة الحديثة  المتمردة على إجابات الكنيسة وليس الخروج عليها،هي محاولة لإعادة قراءة المعطى المسيحي الروحاني ضمن معطيات عقلية وليست تمرداً على الله الذي يؤمن به ديكارت كل إيمان.

كانت مرحلة شق الباب نحو الخروج والانعتاق من سلطة الكنيسة ولج العديد من الفلاسفة،لكن ثربناتس كان قد سبق ديكارت في ذلك باتجاه آخر فقد كانت ملحمة دون كوخته،كما يقول عبد الرحمن بدوي : "  رمز النبالة الساعية في خير الإنسانية،ولكن وسائلها العاجزة لا تستطيع تحقيق أمانيها،رمز المثل الإنساني الأعلى ،الذي يصطدم بالواقع الكالح فينتهي بالإخفاق "[20] .

كانط  خاض معارك ضارية في نقد العقل وفي وضع فلسفة للأخلاق التي رآها مرتبطة بنقاء القلب أولاً وهي بالتالي حياة الباطن،كما أن العقل لا يستطيع التدخل في عمل الإنسانية إلا إذا وقف في وجه الغرائز الطبيعية،كما أنه  : " كلما زاد ابتعاد الإنسان عن الرضا الحقيقي،وهذا هو السبب في انه ينجم عند كثير من الناس،وعند أولئك أنفسهم الذين كانت لهم بالعقل أعظم خبرة،درجة من التعاسة،أعني كراهية العقل ...[21]

أما برتراند راسل الفيلسوف المدافع عن السلام، فقد رأى في كتابه هل للإنسان مستقبل :"  الإنسان ليس اجتماعياً تماماً كالنحل أو النمل،التي لا تبدى حركة تتعارض مع المجتمع،فالإنسان قتل ملوكه مرات عديدة بيد أن النمل لا يغتال ملكاته إلا في حدود قانون الخلية طبعاً "[22] ويقول في موضع آخر من ذات الكتاب : " الجنس البشري لا يستحق الاحترام،ويستأهله لمجرد أنه ماهر في الفتك بأفراده [23] .

مثل نيتشه ذاك الصوت المتمرد المحترق بإنسانيته،فقد كان تعبيراً صارخاً عن عمق الأزمة الإنسانية، زاردشت بصرخاته المدوية خير مبشر بنبوءة المأساة المتولدة في العمق الإنساني : " ليس الإنسان إلا كائناً وجب عليه أن يتفوق على نفسه "[24] ، كما يقول في موضع آخر : " لقد اسقط الإنسان من نفسه حقائقه الداخلية الثلاث التي اعتقد فيها اعتقاداً راسخاً وهي : الإرادة والنفس والأنا،بل لقد أخذ فكرة الوجود من فكرة الأنا،فقد وضع الأشياء في خياله باعتبارها موجودات طبقاً لفكرته عن الأنا باعتباره سبباً [25]"إن هذا الحس النيتشوي المشبع بإرادة القوة وبتذنيب الفلسفة التي لم تدرك حتى الآن معنى العقل سيفتح باب النقاش وسيكون موضع جدالات ستمتد عشرات السنين بين كبار الفلاسفة .

ميشال فوكو أعتبر : " إن عقل الإنسان،في نهائيته لا يشكل فعلاَ شرارة لنور عظيم،بل هو جزئيه من ظلام،فأمام ذكائه المحدود لا تنفتح الحقيقة الجزئية والعضوية للظاهر ...إن الإنسان أكثر المخلوقات فاجعة وهشاشة وهو أكثرها كبرياء،إنه يحس ويرى نفسه يستوطن وحل العالم وأوساخه ويرى نفسه مرتبطاً بأبشع وأردأ وأوسخ جزء من العالم،وهو يقع في آخر مسكن وأبعده عن ثمة السماء،يجاور الحيوانات التي تعد أبشع الكائنات،ويتخيل نفسه متعالياً عن دائرة القمر واضعاً السماء تحت قدميه.وبزهوه الوهمي هذا يتخيل نفسه مساوياً لله "[26] .

ربما يكون هيدغر من القلائل الذين تمردوا على كل هذا الرؤية الفلسفية للإنسان ،فقد دعا لنسف كل الفلسفة بدءاً من أفلاطون وصولاً إلى نيتشه معيباً التخبط الميتافيزيقي وتحويره ،حيث انطلق الفلاسفة في رؤيتهم للإنسان بتواطيء ضمني مع وهمهم بأن العالم هو صورة مدركة وبالتالي فعليهم الغوص في قرار هذا الغامض ( الإنسان )،ولذا نرى هيدغر لا يتوانى عن قوله بان الموجود لم يعد موجوداً إلا بمقدار ما يتحدد من طرف الإنسان في التمثل،وهو حقيقة إدراك الأشياء ،فإن ما يميز الأزمة الحديثة هو كون العالم أصبح صورة مدركة ومتمثلة.[27]



في الإنسانية وحقوق الإنسان:




في ظل هذا النقاشات الفلسفية بدأت تتبلور أثر الثورة الفرنسية حقوق الإنسان التي تحاول إنصاف الآخر باعتباره يمتلك حقاً على غيره،باعتبار الإنسان صورة الله،وهو بالتالي قيمة عليا يجب أن يكون حراً وحريته تكمن في القدرة على فعل ما لا يضر بالغير ( البند الرابع من إعلان حقوق الإنسان 1789 ) وستتبلور حقوق الإنسان في عدة مواثيق متجددة سينقلب الكثير منها على المسيحية التي ولدت من رحمها.

من رزمة الحقوق التي يضمنها ميثاق حقوق الإنسان: أنها الحق في الحياة،وفي عدم التعرض للتعذيب ولمعاملات لاإنسانية ومهينة،وعد الخضوع للسخرة أو الأعمال الشاقة ،حرية التجول، الحقوق في الأمن،والمحاكمة العادلة، حقوق احترام الحياة الخاصة،الزواج والحياة العائلية، حريات الاعتقاد والتعبير والتجمع والتشارك،الحقوق السياسية،حق الملكية  ... "

سيكون هذا التعميم والإطارات الوضعية وليست السياقية هي الثغرة القانونية التي ينفد منها القضاء كي ينصف من يشاء ويدين من يشاء،وانطلاقاً من ذات الثغرة سنرى لاحقاً كيف أن كل هذه الحقوق قد تنسف بصمت من قبل مؤسسات إعلامية تتعدى على أدنى المقومات الإنسانية .



في مقابل ذلك يتشكل الحس الإنساني  من روابط عمودية وأفقية ،من جملة أحاسيس وسلوكيات وتصرفات التي تلاقي اتفاقاً جمعياً فوق مجتمعي بمعنى انه يلاقي إجماعا إنسانيا على الصعيد البشري ( تشكل عرضي ) فيما يرضخ كل إنسان بشكل جزئي ضمن المجتمع الذي ينتمي إليه لجملة مدخلات تكون مؤثرة ضمن الدائرة الإنسانية كالقيم والأخلاق ومن القيم كما يقول حليم بركات  : " تُستمد المعايير والأعراف والعادات والتقاليد المتبعة في المجتمع "[28] ، ويميز بركات بين القيم الوسيلية المتعلقة بالمفاضلة بين الوسائل وبين القيم الغائية التي تحدد معنى الحياة أو غايتها أو ما يسعى إليه الإنسان وهي بالتالي تشكل عمودي

وعليه فإن النزعة الإنسانية تنبع من فلسفة القيم للمجال التي تنتمي إليه،وكل ما ينافيها أو ينافي طبيعتها الإنسانية يعتبر لا إنساني،وعليه فان النزعة الإنسانية تتمرد ضد كل ما هو مهين ومشين لطبيعتها وشكلها ووجودها وحيزها وآليات تفاعلها،أو كما يقول د.عبد الرازق الدواي : " أن النزعة الإنسانية تستنفذ مضامينها ودلالتها في مجرد الرفض المتعدد الصيغ والأشكال،لكل ما يعتقد أنه يتنافى مع الماهية الحقيقية للإنسان ، وهي بهذه الصفة عبارة عن مجموعة من التصورات الغامضة ، لا تسمح بالإمساك بأي واقع موضوعي وملموس "[29] .

الإعلام وقتل الحس الإنساني

يقول د.محمد عابد الجابري في مطلع الجزء الثالث من كتابة " العقل السياسي العربي " ( وهنا أقتبس العبارة كاملة ) : " نذكر أولا بالأهمية التي اكتساها مفهوم اللاشعور في الدراسات النفسية والاجتماعية منذ العقود الأولى لهذا القرن.لقد لاحظ علماء النفس أن هناك أنواعاً من السلوك تصدر عن الفرد البشري بدون شعور منه وهي تختلف عن ردود الفعل الآلية في كونها هادفة،تلبي حاجات معينة وتنزع إلى تحقيق رغبات خاصة،ومع ذلك فهي لا تخضع لمراقبه الأنا ،وبما أن الأفعال الاراديه  الخاضعة للمراقبة الشعورية يقال لها ان تصدر عن الشعور فان الأفعال الهادفة التي لا تخضع لمثل هذه المراقبة قد نسبت إلى منطقة أخرى في الجهاز النفسي أطلق عليها اللاشعور[30].

ويضيف الجابري بأن دوبري سيأتي بعدها ليوظف ذات المصطلح في اتجاه آخر وهو اللاشعور السياسي : " فكما أن الشعور لا يشكل جوهر الحياة النفسية للفرد فان المؤسسات والتصورات السياسية لا تؤسس جوهر الحياة السياسية للمجموعات البشرية،ليس وعي الفرد هو من يحدد وجودهم السياسي،بل ان وجودهم الاجتماعي ،الذي يحدد وعيهم ذاك،خاضع هو نفسه لمنظومة منطقية من العلاقات المادية القاهرة.وهذه المنظومة تبقى حاضرة ثابتة عبر أشكال المؤسسات القانونية أو الفلسفية التي يناظر كل نوع منها بنية اقتصادية معينه،وذلك لأنها،أي تلك المنظومة المنطقية،ليست من نفس  طبيعة تلك المؤسسات.والناس لا ينتجون هذه العلاقات من خلال الروابط التي يقيمونها بينهم،بعضهم مع بعض بحرية،بل أنهم هم نفسهم نتاج هذه العلاقات التي تتولد من روابطهم تلك،وكما هو الحال تماماً بالنسبة للأفراد،ولكن بصورة أخرى،فان الجماعات البشرية المنظمة لها شعور نوعي خاص بها،تشكل الديانات وما يقوم مقامها من الإيديولوجيات،أكثر أعراضه وضوحاً،لا شعور نطلق عليه ها هنا اللاشعور السياسي "[31].

 ومن هنا،تشبيكاً لجملة ما قيل مع ما أود أن أقول،فأني أنحو لاجتزاء هذا المفهوم وصياغته وتوظيفه ضمن إطار وشكل مختلفين،إذا كان اللاشعور هو النابع من منطقة أخرى في الجهاز النفسي فإنه من المؤكد أنه سيحرك جملة من المشاعر الدافعة نحو تحقيق رغبات ومآلات تشكل الغائية في مظلة عقلانية،وكما هو الحال في الاتجاه السياسي فإن الحال ذاته في الاتجاه الإنساني،فطالما كل شيء يحمل فنائه في جعبته،فالإنسان كذلك يحمل فنائه ووجوده،إنسانيته ولا إنسانيته الذي سأسمح لنفسي بتسميته " اللاشعور الإنساني " هو الرغبة الموغلة المحركة للإنسان،هو صوت الطبيعة أو اللاشيء التي كانها قبلها، والذي يستنزف العقل رغم تطوره فيعيد بوصلته نحو وجه الرغبة التي أراد،وطالما للإنسان نزعة من روح الطبيعة فلديه إذا نزعة من لا إنسانية الإنسان والتي تحفزها الحاجات المادية والبيولوجية واستفزاز الطبيعة الكامنة والبقايا العضوية اللاإنسانية المترسبة في النشوء الإنساني.

لقد عرف الإنسان قديماً وحديثاً تلك العلاقة الوثيقة بين الإنسان والحيوان ولسنا هنا بصدد تشريح هذه الروابط ،وإنما نحن بصدد قراءة ذاك الهجوم المستمر الذي دشنه الإنسان مع بدء الإعلام تدخله العنيف في صناعة الإنسان الحديث،بمعنى قراءة تلك المعركة التي لا يسفك فيها دم ولا يسقط ضحايا،تلك المعركة التي لا يسقط فيها إلا الحس الإنساني قتيلاً مضرجاً بدمه،هي إذا معركة الإنسان ضد إنسانيته بعد أن صفى المحيط،هي تلك المعركة التي يود الإنسان من خلالها أن يدمر آخر معاقله،وهو معقل إنسانيته هي المعركة الأخيرة إذا ،معركته مع داخله.


السمع والبصر : قتل التأمل والتفكير



 
فلو تراهم  حيارى لا  دليل   لهـمْ         
عليهمُ من ثيابِ الـذلِ ألـوانُ
يا  ربَّ  أمّ  وطفل حيل    بينهمـا         
كمـا تفـرقَ أرواحٌ وأبـدانُ
وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت            
كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ
يقودها   العِلجُ   للمكروه   مُكرهةً                                                              
والعينُ باكيةُ والقلب حيرانُ



( أبو البقاء الرندي،قصيدة رثاء الأندلس،1258 م )



الخيال والتخيل والتخييل ، ثلاثة مفاهيم ستشكل مفاتيح لدراسة الإنسان وإدراكه،ألينا إدراج القصيدة أعلاه لتقريب ما نود قوله. وعلى وقع القصيدة يمكننا فهم التخييل أي استفزاز المخيلة المقابلة لرجع الصدى،بمعنى هو زرع صور متخيلة في ذهنية السامع،هكذا انبجس مفهوم التخييل لدى الفلاسفة العرب في رؤيتهم للشعر التصويري حين يتخيل السامع قسراً تحت تأثير هيمنة القصيدة وشاعرها سواء بقوى المحتوى أو الشكل أو المحسنات،فيما التخيل سيكون هو زرع الصور بإرادة الشخص الفاعل بتلقائية غير واعية في إطار المدى الذهني وقابلية العقل المشكل على استدعاء أنماط صورية ،وبالتالي ووفق الفارابي يصير التخييل أقاويل : " تنهض بالسامع نحو فعل الشيء الذي خيل له فيه أمر ما،من طلب له،أو هرب عنه،سواء صدق ما يخيل عليه من ذلك أم لا كان الأمر في الحقيقة على ما فيه أو لم يكن "[32]

يقول الكندي أن الصورة الحسية هي : " حضور صور الأشياء المحسوسة مع غيبة طينتها ". هكذا كان البصر يتفاعل في الفلسفة العربية والإسلامية ومذ بدايات إنتاج الصورة المجردة كأداة لتوصيل المعنى شن الفلاسفة هجوماً شرساً عليها إذ هي : " طراز رديء من طراز المحاكاة "،لكن الصور الحسية والشعرية بقدر ما رفضت من قبل الفلاسفة إلا أنها لم تلقى ذات الهجوم العنيف الذي لاقته الصورة المجردة،فقد لاقت بعض الاعتبار كونها تخاطب كل الحواس لكنها قورنت رغم ذلك بالإيهام والدغدغة النفسانية على حد تعبير جابر عصفور[33].

كان الفارابي والكندي من أوائل العلماء والفلاسفة في العهد الإسلامي الذين حاولوا دراسة الحواس وقواها وتأثير وسلطتها وعليه فقد قسمها  الفارابي إلى القوة النزوعيه،القوة الحاسة،القوة المتخيلة،القوة الناطقة.وعليه يرى الفارابي أن القوة النزوعيه هي النزعات الغضبية،الشهوة،الحب،الكره،الرحمة ،والتحكم بها مربوط بمفهوم الإرادة.

فيما القوة الحاسة هي التي ندرك بواسطتها المحسوسات،وبالتالي فان القوة الحاسة هي الحواس الخمس المعروفة.وكل حاسة من هذه الحواس يدرك حساً يخصه،فيما الإدراك يتعلق بتشابك الحواس،وهو ما يعرف في زماننا بالدراسة الأفقية والعمودية للحواس.ومن هذه الحواس ينبجس مفهوم الإدراك.

إن الأهم من ذلك هو ما قاله الفارابي بخصوص القوة المتخيلة،إذ يقول : " هي التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن الحس،وتركب بعضها إلى بعض،وتفصل بعضها عن بعض في اليقظة والنوم،تركيبات وتفضيلات بعضها صادق وبعضها كاذب... القوة المتخيلة قوة متوسطة بين القوة الحاسة،والقوة الناطقة،وعندما تكون الحواس قائمة بأفعالها تكون القوة المتخيلة منفعلة عنها ومشغولة بما ترسمه الحواس فيها من الصور ،ولكن إذا انقطعت الحواس عن القيام بعملها كما في حالة النوم انفردت القوة المتخيلة بنفسها ... "[34] .

أمام ما تقدم وربطاً بحالة عصرنا الصوري،يتراءى لنا مشهد قاتم للغاية،أمام حالة ليس من التخييل التي عابها الكندي والرازي والفارابي،وليس ضمن حالة من التخيل التي قد يتقبلها بعض رواد ذاك العصر،لكننا أم نسف المخيلة وتركيب مخيلة جديدة تتلقى مرغمة كل أشكال الزرع المفهومي والإيهام بالمفهوم السلبي الماضوي،نحن أمام مرحلة جديدة يتم خلط المفاهيم بصورة مختلفة تماماً عما كانت عليه،فقد كان الخيال هيئة الأشياء والتخيل هو عودة الأشياء للذهن بعد غيبتها واقعياً،فيما التخييل هو دغدغة نفسانية كما أوردناه  يهدف إلى التعليم والمقارنة بواقع الفرد،وعلى أبواب القرن الواحد والعشرين يصير التخييل مرحلة مؤقتة لوسائل الإعلام تبث الصور ثم يقوم التخيل ببلورتها على فترات متقطعة ليختزل الفارق بين الجسم وهيئته وبين الشكل وظله فيصير الخيال واقعاً والواقع خيالاً.

علماء،ومفكرون،وباحثون،خلال عشرات الدراسات والأبحاث وجدوا أن الصورة التلفزيونية هي معيق حقيقي في التقدم المعرفي والفكري بالأساس.

يقول الباحث عبدا لرحمن عزي أستاذ الإعلام في جامعة الملك سعود،أن العلم الحديث قد بين ان الإنسان يوزع زمنه الاتصالي على النحو التالي: الاستماع بالدرجة الأولى بنسبه 45 بالمائة،ثم الكلام ب 30 بالمائة،ثم القراءة ب 16 بالمائة، ثم الكتابة ب9 بالمائة،يعني ذلك ان الإنسان يسمع أكثر مما يتكلم ويتكلم أكثر مما يقرأ ويقرأ أكثر مما يكتب. ويكمل الأستاذ عبد الرحمن عزي بقوله : " ان قدرة الإنسان على الكلام تصل إلى 150 كلمة في الدقيقة،بينما تصل قدرته على الاستماع إلى 450 في الدقيقة "[35]

أن هذه المعلومات هي مؤشر على أن السمع هو حاسة مهمة وقوية ونشطة أكثر من غيرها من الحواس. لكن الأمر الخطير في دراسة الأستاذ عزي هو بالضبط ما أكدته الأبحاث الحديثة أيضاً أن التلفزيون ينمي الكسل  ,انه يضعف الجانب الأيسر من الدماغ الذي يقوم بعمليه التحليل[36].

إذا فليس غريباً أن يكون الأكمة أذكياء بأغلبيتهم،وليس غريباً أن تنتقل كل هذه الثقافة الشفوية عبر آلاف السنين إلينا،وليس غريباً أن تحفظ قصائد أيام العرب،بطولات البَّراق،كليب والزير سالم،عنترة بن شداد،أبو زيد الهلالي،وغيرهم من القصص والقصائد التي عاشت قرون.

إننا أمام ثقافة سمعية،أمام ذهنية متوقدة،تنحسر الآن أمام ثقافة الصورة وأمام التلفاز الذي أخذ على عاتقه مهمة المخيلة في ترسيم ما يجب ترسيمه،لتصير المخيلة عاطلة عن العمل،وبالتالي يصير الجهاز الالكتروني هو مخيلة الإنسان الحديث. نحن أمام معنى لا يمكن أن يصل إلينا إلا في خلال تعطل وغيبة حواس أخرى.

في طريق تعطيل المعنى،تُعطل خلايا عضوية في داخل العقل،وهذا ما راح إليه العديد من العلماء الألمان في إحدى دراساتهم  والتي خلصت أن مشاهدة التلفزيون قد تؤخر نمو المخ لدى الأطفال،وأوصى الخبراء والمختصين بعدم تعريض الأطفال لسماع قراءات من التلفزيون،وحث الأهل على قص القصص لأبنائهم.

بناءً على عينه شملت 1000 أسرة لديها أطفال من العائلات التي تحكي القصص لأطفالها،وُجد أن أطفالهم يعرفون عدداً أكبر من الكلمات بنسبة ثماني في المائة عن الأطفال الآخرين.[37]

ان غيبة التخيل يعني أن ثمة قوى ذهنية لم يعد لها حاجة في العمل يعني قتل خلايا فكرية في طور تولدها،وهو أيضاً يعني موت أجزاء من مركبات الواقع الحقيقية، كما يقول بودريار : " لقد توقف الواقع على أن يكون واقعاً لم يعد هناك أي متخيل يحيط به،وهو أصبح واقعاً فائقاً من إنتاج نماذج مموهة داخل فضاء فائق لا مرجعية ولا محيط خارجي له "[38].

اذا توقف الواقع على أن يكون واقعاً،وسيتوقف الإنسان على أن يكون إنسان،وسيتوقف الفكر عن كونه فكراً والعقل عن كونه عقلاً طالما المعركة هي في خضم ثورة وظيفية ستقلب وظائف الأمور لتغير الواقع والوجود والإنسان وما بينهما من روابط.

لم يعد للإنسان حاجة أن يتخيل تلك الصور الأدبية والأشعار الوصفية التي يزخر بها الأدب،لم يعد للإنسان حاجة بأن يفتت معنى الكلمات ويغوص نحو أعماق التأويل ولتفكيك النص وإعادة ترتيبه،لم يعد حاجة لكل ذلك طالما الصورة قد تكفلت بذلك. وبالتالي فقد تشوهت الذات الإنسانية،تعطلت مدركاته وأدواته المنهجية التحليلية.

إن أشد أدوات القتل اللاإنسانية قتل المخيلة وقتل الإدراك لصالح الصورة ولصالح التكنولوجيا الحديثة. ولكن السؤال هل يعي المشاهدون هذه الحقيقة ؟ هنا يتوارد مفهوم اللاشعور الإنساني،هو القتل دون وعي،هو تدمير الذات الإنسانية لأجل رغبات أخرى داخلية قد نعتقد أنها حاجتنا لمعرفة المعلومات غير أن فرويد علمنا أننا بحاجة لتقشير رغباتنا كي نعي حقيقتها.

من هذه اللحظة يبدأ العنف الرمزي بالاشتغال وممارسة هيمنته داخل المشاهد،والذي يمتد ليس فقط من خلال قمع المشاهد مما ذكرناه أعلاه بل يمتد لكل المنظومة الإنسانية ولكل المؤسسات وما يهمنا هنا الجانب الإعلامي من قوى السلطة وأعني السلطة هنا بالمفهوم الفوكوي،ولا نعني بالعنف الرمزي الجانب المُعنِف دون المعنَف،فكما يقول بورديو : " إن العنف الرمزي شكل من العنف يمارس على فاعل اجتماعي بتواطؤ منه ... إنها واقعة قبول هذا المجموع من المفترضات المسبقة الأساسية ،أي السوابق التفكيرية،الذي يدخله الفاعلون الاجتماعيون بمجرد أن يتناول العالم على أنه بديهي،أي أن يُقبل كما هو قائم وباعتباره طبيعياً لأنهم يطبقون عليه بنيات منحدرة من بنيات ذاك العالم ذاتها،إذ لكوننا ولدنا في العالم الاجتماعي ،فإننا نتقبل عدداً معيناً من المسلمات،من الأوليات،التي تمر من دون كلام،والتي لا تتطلب ترسيخاً ولهذا فإن تحليل القبول الظني للعالم،بفعل الاتفاق المباشر بين البنيات الموضوعية والبنيات التعرفية،هو الأساس الحقيقي لنظرية واقعية في السيطرة والسياسة ".[39]

إن نظرية بورديو هي مدخل جيد لفهم هذا الواقع الإعلامي واشتغاله،في البعد الإنساني،الذي يتعرض لعنف رمزي يكون جزءاً من السيطرة على ذاته،وسيكون الإعلام متسرباً من هذه الثغرة الإنسانية ليسيطر على المرجعية المعرفية للمشاهد لضرب كل بنيته المعرفية وتحويله إلى آلة أداتيه تعزيزاً لحالة التبعية التي هي مُراد وسائل الإعلام وكل سلطة ومؤسسة.


الصورة والمعنى : قتل الحقيقة




لقد تعدى الإعلام حدود الإعلام ( الإخبار )،فلم يعد هو نقل الحدث بل هو صانعه،لقد قتلت الحقيقة بين خبرين أو بين حدثين وبقدر ما قتلت الحقائق فان حقائق أخرى تولد على مقربة منه ولعل ميشال فوكو قد أصاب بيت القصيد بقوله : " ليس الخطاب سوى خفقان ضوئي لحقيقة تتولد على مرأى منه "[40] .

وطالما أقحمنا فوكو فلندعه يكمل ما أراده،فهو يرى بكل مؤسسة خطاب،وبكل خطاب رغبة،إذا نحن لسنا أمام وسيلة إعلامية بقدر ما نحن أمام خطاب يستنزف كل طاقاته لأجل الرغبة المطوية ضمن الرتوش العقلانية.

الخطاب الإعلامي لا يفتأ يخضع الذوات المتحدثة إلى خطابات وإخضاع الخطابات إلى جماعات يفترض أنها جماعة ذوات متحدثة [41]. هكذا يخضع الإعلام عاطلي العمل إذ يوظفهم،يقضمون مواقفهم ليعملوا بصمت ويتقاضون راتبهم،ويخضعون في ذات الواقع مستمعين ومشاهدين يتوقون لخبر يفرح قلوبهم مرة أخرى من المفيد استحضار ميشال فوكو : إن المؤسسات تعيد إنتاج الخطاب النقيض على أنه جزء منها .

وبالتالي فالمحرك لكل هذه التموضعات وفق فوكو هي الرغبة التي هي رغبة في ال : الجنس أو السلطة أو المال.

إذا يمكننا ووفق فوكو رؤية الإعلام كمؤسسة تسعى إلى المال والسلطة معاً فهي تهدف من خلال وجودها الترويج لادلوجة معينة أو وجهة معينة،وفي ذات الوقت تقوم بسياسة الربح السريع لحسابها،وثمة جهات إعلامية تهدف فقط إلى المال كالإعلام التجاري،أو إعلام يسعى فقط إلى السلطة كالإعلام الحزبي .

ولكن ماذا عن المشاهد ؟ ما يحركه ويدفعه لأن يكون ضحية لرغبات الجشع والتسلط الإعلامي ؟ انه  نفس الهاجس الإنساني ،هي اللذة ،فالمشاهد يتابع بلذة واستمتاع إذا فاللذة هي المدخل لتحليل حاجات المشاهد،يقول الفيلسوف أبو بكر الرازي : " إن اللذات كلها تحصل للملتذ بعد آلام تلحقه،لأن اللذة هي : راحة من ألم،وإن كل لذة حسية إنما هي خلاص من ألم أو أذى في غير هذا الموضع ".[42]

 من هنا نرى هروب المجتمعات للتلفاز فالمواطن العربي يهرب من بطش السلطة إلى نعيم العزلة عبر التلفاز،ومن مأزق القمع الجنسي إلى العالم المفتوح على الأفلام الزرقاء وقنوات التعري،ومن ضغوط الحياة اليومية إلى الأغاني الهائجة والمائجة.

وثمة مقولة مهمة للفارابي : " اللذة من كل فعل هي الغاية "[43] وهذا يساعدنا في فهم أكثر عمقاً لذاك المشاهد،فالغريب يفتش عن وطنه في التلفاز،والمكبوت جنسياً يفتش عن الجنس،والمخنوق سياسياً يفتش عن وطن،وعن اجابات تنقذ داخله.

لكن الإعلام يتحول ضمن تسريباته في الذات الإنسانية إلى صناعة لغة جديدة وغريبة،فالإعلام يتحول إلى مشبك بين الكلمة في حدودها العادية لتحمل أكثر من معناها ضمن بث مضامين عنيفة تلصق الكلمة بغير مسماها وبعث الدلالات في تربة الكلام ليتعدى كل حدود اللغة،فيصير ضمن هذه العملية : سوريا – حامية المقاومة،تركيا  - حامية غزة الحنونة. هو إذا انبجاس المعنى الذي تحدث عنه جان بودريار[44].

وبغض النظر عن حقيقة تركيا وسوريا،ولست هنا بصدد استقراء وتحليل سياسي لما يدور ضمن دوائر المصالح والمواقف والسياسات والعلاقات الدولية،ولكني بصدد استباق الأمر لمنحى آخر : إن الإعلام يعرقل عمل العقل في التحليل المنطقي،فنحن لا نتساءل في حالة هذه الدول مثلاً عن حقوق المواطنين، تمجيد الرئيس،حظر المواقع الالكترونية،قمع التظاهرات،جدول الغلاء ... لأننا لا نعمل العقل بقدر حاجتنا العاطفية للبحث عن رموز تستوعب كل طاقتنا وحنيننا في ظل زحف حضارتنا نحو الهاوية. هو استدراج العاطفة والحنين لغير موقعه.

ولكي يستوعب المتلقي كل هذه الرسائل ويقنع بما يبثه الإعلام،يصير التعارض الإبراز ،الحجب،التضخيم،التعارض،تغيير الشكل،هي أساسيات وآليات أي وسيلة إعلامية.

من خلال المنظومة أعلاه،يقوم الإعلام ببناء المعنى الجديد،وكل معنى يرزح تحت أعباء سياسة التحرير التي تشرف عليها القناة.

سأذكر قصة قديمة قد توضح جانباً مما أود قوله : حين أراد عبد الملك بن مروان الخروج لمقاتلة عبد الله بن الزبير في مكة،استشار أخوه عبد العزيز بن مروان،عنه( أي ابن الزبير ) فأجابه وأثنى بعض الشيء عليه،ونبه عبد الملك لبعض قسوته ،فصرخ عبد الملك : " لا تخفض من شأني وتعلي من شأنه في عبارة واحدة " .

لقد كان ابن المروان حاذقا فهو الخبير بأساليب البلاغة ووقعها في النفوس،وهو يعرف ما معنى ذلك في العرف اللغوي خصوصاً في المناخ العربي الإسلامي.

إن هذه التعارض في العبارة التي فطن لها عبد الملك بن مروان هو بالضبط أحد أساليب الإعلام في يومنا هذا : حزب الله يتأهب على الحدود،والسنيورة يقابل السفيرة الأمريكية،هنا نحن لسنا أما تعارض فحسب بل أمام تماسك نصي في مقابل تماسك دلالي بعد أن بات لدينا مرجعية معرفيه زرعها الإعلام نستدل بها على رمزية حزب الله ورمزية السنيورة.

كما أن الأساليب الأخرى لا تبعد كثيراً عن ذلك،فاحتجاجات المعارضة الإيرانية مثلاً،خصصت لها قناة العربية ما خصصت من تحليل وتركيز الضوء،فيما بسطتها الجزيرة إلى القدر الذي يناسب رسالتها.

في إطار آخر يقوم الإعلام بضخ الخطاب بمضامين رمزية قاسية للغاية،ضمن التحليلات الإخبارية التي تقارب بين أحداث غابرة وأحداث تدور الآن كتشبيه حرب غزة بمعركة بدر،أو تشبيه ،أو مقاربة مشعل بأبي بكر،نحن هنا إذا أما استحضار مضامين تاريخيه وزجها في أشكال آنية، أو إعادة إنتاج الواقع،هو تجاوز التاريخ ليصير اليوم محكوم بما جرى بالأمس،وبالتالي فلك في التاريخ عبرة !

إذا فإن الكلمة تمر أولاً عبر مسار يومي لتعبئتها وإلصاقها بمفاهيم تختارها وسيلة الإعلام،وتستمر هذه الكلمة في التبلور داخل المخيال للإنسان في ظل تعتيم وتعطيل حواسي وتحليلي،حتى تستقر الكلمة كما تهواها وسيلة الإعلام .

في التزامن  مع هذه الأساليب السلسة،تكمل الدراما سلطتها في قمع آخر الحوافز المعرفية لدى الإنسان المتلقي عبر اجتزاء الذروات في الحياة كالحب والحرب ضمن طقوسها التي تعبر عن السيطرة الجمعية للمجتمع،وإذا كانت الدراما إعادة تمثيل ذروات الحياة،في ظل هذه الآلية يتم تعويض الزمان والمكان بلحظات الذروة هنا يتم استحضار التاريخ والتراث وتوظيفهما في الإطاحة بالزمكان الراهن ونسف كل الوجود وتعويضه بشحنة عاطفية ،فيصير المشاهد لمسلسل خالد بن الوليد يعيش حضارته الغابرة ويرى بنفسه سيف الله المسلول،ويرى الثوري نفسه في مشنقة عمر المختار ونظارته الملقاة على منصة الإعدام،وهنا تفتح بوابة الاغتراب في هذا العالم ويصير المشاهد كــ " القادم في الزمن المتأخر ".

في كل الأحوال المشاهد وكما ذكرنا سابقاً لا يفكر بقدر ما يحس وبالتالي يكون مشدوداً إلى هذا العمل الفني الذي يتبناه ليصير عالمه،ويبقى تحت أثر الصورة ضحيتها وضحية منطقها.

لكن الدراما تعدت موقعها لتتداخل في آلية تقديم الأفكار ذاتها،ويصير مقدمي البرامج والمراسلين مقاتلي معارك وهمية،عبر إلصاق الصورة بغير المعنى وعبر التضخيم والتعارض وسياسات بناء ممنهجة،أكتب هذا وأنا أفكر بمراسلي الجزيرة الذين تحولوا إلى نجوم ،هي إذا أدرمة الإعلام ليتحول المراسل إلى ممثل هوليودي وليستحوذ في النهاية على آخر معاقل التفكير إنه إلباس الهالة المقدسة لأشخاص لا يستحقونها،هي خلق رموز يستطيعون النفاذ عبر إحساس المشاهد لترسيخ المشهد .

بتواطيء الموسيقى مع الصورة مع الإضاءة والديكور لصناعة المعنى،يتبادر إلى الذهن هنا برنامج حكاية ثورة في قناة الجزيرة الذي يطل بموسيقى تستفز الحس الوطني من جذوره ( النشيد الوطني)،ومن ثم حكاية ثورة مكتوبة من الدم،وشخصيات من تاريخ الثورة الفلسطينية في مواقع مختلفة في ديكورات ملأى بالصور والرموز الفلسطينية إضافة لإدراج مقاطع فيديو ،المهم في كل هذا أن المشاهد سيبقى مشدوهاً أمام هذا الزخم الثوري لن يحلل،لن يتساءل،سيبقى يتحسر على تاريخ ثورة تنحسر لتتبخر أمام ناظريه، لكنها لا تهدف إلى إبراز ما كان بقدر ما تهدف إلى إبراز ما هو موجود،فالمشاهد سيعود بعد ساعة من التفاعل الرمزي مع البنادق والمقاومة،إلى البنك والبريد وإلى واقع عربي وفلسطيني لم يعد للمقاومة المسلحة فيه ذاك الزخم،من هنا فالرسالة هي ليس ما كان بل ما هو موجود اليوم،إن الجزيرة تود القول من خلال عرضه : " انظروا إلى واقعكم،انظروا إلى الفجوة من المقاومة إلى المفاوضات،ومن خطف الجنود والمعارك،إلى الهزيمة والركود والسبات ... "

في ذات الوقت  تبرز التقنيات على حساب المضمون،وإن كنت هنا لست بصدد تحليل مضمون حكاية ثورة لأن هذا ليس مجالنا،لكن الأهم من ذلك سؤال لأجل من تصمم البرامج ؟ إن هذه البرامج لا تُخرج للمشاهد بقدر ما يخرج للإعلام ذاته ،أو كما يقول بودريار أن : " الإعلام يستنفد ذاته في إخراج الاتصال،وبدل أن ينتج المعنى فانه يستنفد ذاته في إخراج المعنى "[45]. تتراءى إلى ذهني تلك البرامج المقيتة في الإعلام العربي كالاتجاه المعاكس وبرامج الشحن التي تصنع من البرامج ساحة للعراك وتركز على برامجها وتتجاهل مضمونها،ولا يكون للنقاش موقع ( بالمناسبة النقاش في اللغة العربية من النقش،بمعنى النقوش والزخرفات،كون النقاش يُجمل الفكر ويزخرفه )،فالموضوعات أصلاً لا تقبل النقاش كونها بالغالب عامة جداً ومتناقضة جداً والأشخاص الذين يمثلون وجهات النظر لا علاقة لهم لا بقريب أو بعيد من النقاش،تدخل أمور كثير للتلاعب هنا كتقسيم الوقت وتغيير الشكل والاستفزاز  وصياغة السؤال بشكل يفجر المكنونات العاطفية ولا يمس البحث عن حلول أو إنصاف موقف ما ،هي إذا وكما صاغها بورديو بندوات حقيقة ومزيفه[46]،ولن تكون الندوات وحدها ضمن التحليل البوردوي إذا ما هضمناه وحدها الحقيقية المزيفة بل ستكون كل البنية الإعلامية بما فيها برامجها وأخبارها وأفلامها هي حقيقية مزيفة.

أمام إعلام غير بريء بالمطلق،وأمام توجيه المتلقي باتجاه سلوكي وفكري محدد، يكون المشاهد ضحية سياسات بناء المعنى التي تقوم عليها القناة،تقوم عليها الرغبة.

تتشكل المصيبة الكبرى في ظل منح الإعلام لآليات وجودية ولإعطاء مسارات خاصة تخرج من دائرة الأثير وتتجاوز الحدود الإخبارية نحو الحياة الواقعية الظاهرية،فيصير الإعلام هو من يشكل الواقع لا صورة له وبالتالي فان الخيارات المتاحة في الحياة هي ذاتها التي يتيحها الإعلام وعليه فما لا يكون في الدائرة الإعلامية لا يكون في الواقع،وهكذا ووفق هذا الأسلوب فان عشرات الأحزاب أو عشرات الأخبار التي يود الإعلام الترويج لها تصير غير موجودة،كما أن الأشخاص المقربون من الإعلام،من رموز وشخصيات ومحللون ومفكرون،يصيرون هم وحدهم ممثلو الواقع في هذا العالم،ان الإعلام يتحول من مصور للمسارات الحياتية والخيارات المتاحة إلى صانعها.اذا فالموجود هو موجود بقدر ما يتجدد ويضخ في وسائل الإعلام  أفكر بهيدغر الذي سينتحب كثيراً حين نقد الفلسفة من أفلاطون إلى نيتشه كونها استقرت في دراسة الوجود بما هو موجود غافلاً عن الوجود كوجود،فما كان سيقوله هيدغر في ظل غياب الموجود ذاته وانحساره ؟

في ظل هذا الواقع الرمزي الذي نعيشه تتلاشى الروابط الإنسان وتفقد بعدها القيمي يكفي أن نتساءل ببساطة وسذاجة أي رسالة تحمل حرارة أكثر لقريبك البعيد ؟ رسالة مصفوفة،أم رسالة بخط اليد ؟ يكفي أن نسأل عاشق عن صورة الحبيب أو وجوده الواقعي ؟ لكن التقنية وصناعة الواقع الرمزي تستمر في التحدي وهو ما يمكننا ملاحظته اليوم في أفلام وبرامج ثلاثية الأبعاد التي تحاول قدر المستطاع خلق واقع الكتروني وتقني،يكفي أن نرى لهاث دور السينما لصناعة أجهزة رائحة تخلق الرائحة وفق الجو السينمائي.

وليس الخبر سواء في التلفزيون أو في الصحيفة هو خبر كامل المعاني والإجابات،إن أتفه ما يكون هو تلك النخبة من الإعلاميين ومروجي الإعلام الذين يدعون أن الخبر يجيب أو يجب أن يجيب على الأسئلة : من،متى،كيف،لماذا،أين ، إن تفاهة الأمر تظهر حين يؤول الإعلامي ال " من " التي يريدها وليس " من " الذي أريده،مثلاً لو أخذنا خبر مقتل شخص،فأنا لا أريد أن أعرف الشخص فقط بل من ال " من وحدها " ومن ال " أين " وحدها ومن كل سؤال سأشتق عدة أسئلة : من القاتل ؟ من المقتول ؟ من وصل إلى الحادث أول الأمر ؟ من عاين الجثة ؟ أو " أين " مثلاً : أين قتل ؟ أين كان متوجهاً ؟ أين وجدوه ؟ أين ضربوه ؟ أين كان قبل أن يقتل ؟

إن هذه الأسئلة كلها على صعيد خبر بسيط قد يكون مألوفاً،فكيف بخبر مركب ؟ أو خبر معقد له ما قبله وما بعده،كم من سؤال يختزلهم الإعلام بالإجابة عن أسئلة استفهام مباشرة وبسيطة ؟

يقول البعض لإجابات جديدة لك تحليلات ومقالات،لكني لا أريد ذلك،لا أريد تحليلات منحازة وموجهة ومقالات تحمل رأياً تأليبياً،بل أريد خبر يعطيني كل ما هنالك كي أحكم أنا وحدي بعيداً عن ضغط الإعلام ورسائله المجتزأة ضرباً من نفاق.

وقضية أخرى يحاول الكثيرين تناسيها وهي قضية المغالطات المنطقية: كرجل القش أو العلة،أو الشخصنة،وغيرها ،وأعطي هنا مثالاً مغالطة العربة – أو مغالطة الانجرار برأي الأغلبية: " 73% يصوتون بأن تركيا دولة مساندة للمقاومة " إذا كان 73% يصوتون هكذا فهذا لا يعني أن تركيا تساند المقاومة،لأنها ببساطة لا تحمل ترابط منطقي بين رؤية فئة مصوتة لا تحمل الأثر التحليلي وبيان موقفها،وبين واقع مُغيب عن رؤية واقعية مقارنة بالفعل الممارس،ويكفي أن نذكر منطقياً قيادة تركيا للناتو لكي تنهار كل المغالطة. أو على سبيل المثال مغالطة رجال القش وهي الربط غير المنطقي بين قضيتين لمحاولة إظهار هشاشة من يقف أمامك : ( من أحد برامج الحوار ) حزب الله لم ينتصر في لبنان،يجيب المحاور :  إذاً إسرائيل انتصرت ! هنا المغالطة لأن الأول  قال بأن حزب الله لم ينتصر لكن هذا لا يعني أن إسرائيل انتصرت ولأن الثنائيات ليست مطلقة فالربط لا يجب ان يكون مطلق وبالتالي يعد مغالطة.

ويعود السؤال : ما دور اللاشعور الإنساني هنا ؟ يشل الإعلام وظيفية العقل في اتجاه المتلقي،ويحدد مجرى التفكير النقدي لصالح التفكير السردي،فهل هناك أشداً قتلاً من قتل التفكير داخل المتلقي ؟ وهل هناك تدني في منزلة الإنسان أكثر من تدمير العقل الذي أصلاً هو ما يميز الإنسان عن غيره ؟ لقد تحول الإنسان إلى مستقبل فقط ولا حاجة للمزيد،لماذا ؟ لأن الإعلام يقول له دع التفكير والقراءة والتحليل نحن نعطيك ما تريده،نحن نأتي لك بالإخبار،بالرأي والرأي الآخر،نحن نقرأ لك السطور وما خلفها،وأنت ما عليك الا أن تكون مستقبلاً قانعاً بما يقدم.


الإنسان والعالم والوجود : التدمير الثلاثي

أعلن نيتشه قبل ما يقارب القرنين موت الآله مبشراً بالإنسان الأعلى،وبشرنا ميشال فوكو قبل نصف قرن بموت الإنسان فيما أبشركم اليوم بموت الموت،لقد مات الآله ومات الإنسان فهل تبقى غير الموت ليموت ؟ لقد أنهى مهمته التقليدية فما عساه يفعل ؟ لقد ضاقت الحياة على كل شيء حتى على الموت ذاته لذا وجب تبشيركم بموت الموت،لكن موته سيكون باتجاه آخر هو موت الموت فوق فوهة التقنية،في حالة موت ملتبسة يموت فيها الأحياء ويُحيا الأموات ويصير للموت مفهومة الجديد.

مات الآله سابقاً لصالح القوانين وخابت القدسية على باب القوانين الوضعية،وحلت الآلة في خطى الإنسان لتزيحه وتبقى،أما الموت فقد مات،مات لأن فكرة الموت ذاتها تقننت ( تحولت إلى تقنية )،تحولت إلى أرقام وحسابات ولغة حاسوبية،فقد قتل الموت أمام المجتمع الجديد،مجتمع الروابط الاجتماعية الضيقة،أمام الأنسجة الاجتماعية الجديدة تضيق القرابات وصلات الدم وعلاقات القُربى،ويبتعد شبح الموت عن ناظري الفرد،وتحولت طقوس الموت إلى طقوس ارتجالية لا تمد لمعناها الأسطوري السابق بصلة وإنما تختلط بعلاقات الشكل،أو هي حالة من إيجاد الذات كما يقول مارك أوجي في مقالته : " ما نفقده هم الأحياء وليس الأموات "[47] لقد تحول الموت إلى صور مجردة تلتقطها شاشات التلفزة وغدا مشهداً اعتيادياً في ذهنية الإنسان الجديد،لكنه بات مؤطراً ضمن محاور الحظر،ولحظة الخروج منها فإنه يكون موجهاً لكل فرد لإعادة الاعتبار الحياتي في مخيلة المفجوع كإعادة هيكلة لما تم تأطيره وإعادة سيطرة على الفرد من خلاله،أتذكر هنا الموت الذي لا يرتبط إعلامياً إلا بمشاهد التمرد،الرفض،الحروب،الصراعات،الكوارث الطبيعية،يصير الموت من خلال الرسالة الإعلامية رسالة إرهابية،فقيمة الموت تعلو وتنخفض وفقاً للحاجة ذاتها،ومن خلالها تصير الكوارث الطبيعية وحملات الإغاثة حملة للإنسان كي يحيا ويغض الطرف عن موته القادم،أو كي تصير الكارثة مجمعاً لكل جهود الفرقاء من الجنس البشري..

لم يعد الموت نفسه موت الحضارات السابقة ،لقد قاوم الفراعنة موتهم بالأهرامات،والبابليين بالحدائق المعلقة،والفينيقيين بقرطاج،والأنباط بالبتراء ... كان الموت يرفرف دوماً في المخيلة كي تتحداه،كي يحمل طقوساً مقدسة ومراسيم دقيقة،وكان التذكير بالموت يتم لحساب تحديه،وعبر السني الطويلة تحول الموت فزاعة في يد الإعلام والتكنولوجيا وكي تتحداه عليك أن تخضع للمنظومة المعولمة،عليك أن تؤمن بالواقع الجديد،عليك أن تستهلك الإغراء والأجساد،لكي تعيش الحياة ،عش في منظومتها كي لا يطالك الموت مطلقاً.أليس هذا بالضبط شعاراً تستعمله العديد من الشركات  : " عيش حياتك " ؟ وإذا لم أعشها ولم أشتري المنتج ؟ سأكون ميتاً وليس منا من يختار موته كلنا سنقتل الموت فينا ...!

هكذا من خلال الترغيب والتهريب نقتل موتنا كل يوم،شباب يمضغ الأفلام الزرقاء،جيل ينمو على حافي الأسلاك الالكترونية،مجتمعات مبرمجة،شركات دعائية وإعلانية ...الميتون وحدهم الخارجون عن الإجماع البشري في الحياة الجديدة، الثانية والحياة الثانية سوف نجدها أيضاً الكترونية في اللعبة الالكترونية the second life .

من هنا يمكن أن نرى كيف تمارس السلطات والحكومات تمثيل الخطر المداهم على انه تهديد للأمن الشخصي واعتبار الشعب ميتاً طالما ظل صامتاً ،فقد مات الشعب الأمريكي قبل حرب العراق ليحيا بعدها،ومات قبل حرب أفغانستان ليحيا بعدها،يكفي أن ننظر إلى ماكنة الإعلام الإسرائيلي ورسائلها لمواطنيها أبان كل حرب : " حرب وجود أو لا وجود "، " الحرب اضطرارية لأن العدو لا يهدف إلا لإزالة إسرائيل من الوجود "،وفي الاتجاه الثاني تحول غاندي وجيفارا وغيرهم إلى آلهة وأساطير حية تخرج من موتها.

في كلا الحالتين مات الموت وفقد مداه أو حواجزه في ظل اختلاط الموت بالحياة وفي ظل إخراجه من دوائره الحقيقية التي يجب أن يكون ضمنها.

البداية من الفرد  في مواجهة التلفاز بعد أن استفرد به في معركة غير متكافئة،ضمن ضخ صوري لا يعطي الإنسان أي مجال للتفكير،من هو الصادق والكاذب ؟ ما الحقيقة والخداع والخطيئة،الخير والشر،العدل والظلم،الجمال والقبح ؟ نحن هنا نعود للمأساة التي تحدث عنها ماكلوهان : " الميديا لم تحاول توسيع قدر معلوماتنا أو في قدرتنا على الاتصال بل أثرت تأثيراً سلبياً على علاقتنا نفسها بالعالم،وأصبح الإنسان تائهاً فيما بين الحقيقة والخطأ،العدل والظلم،الجمال والقبح،لأن مراكز حساسيته التي كان يمتلكها قد تعطلت بفعل هذه الماكنه الإعلامية المشوشة "[48] ، هي إذا إفراغ الحس الإنساني من إنسانيته .

ولكن ثمة أمر يجري في خضم هذه المعركة،معركة بقاء الفرد ضمن أسرته،ربما يكون التلفزيون سارق للوقت كما يقول جون كوندري [49]  لكنه سارق للفرد من بين أسرته تلك هي المحصلة،ثمة لغة جديدة تداهم حياتنا هي لغة التقنيات والتكنولوجيا وطفرة المعلومات لغة تتنصل من لغة التجربة التي عاشها الفرد ومن أفكاره الأساسية والتي هي بتعريف غوستاف لوبان : " التي تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقراراً كبيراً ،نذكر من بينها الأفكار الدينية سابقاً ... " . إذا فان الفرد في مواجهة لغتين : لغة الإعلام ولغته الأساسية،وربما في هذه الحالة سيعيش الضياع الدريدي انطلاقاً من نظرية جاك داريدا في كتابه : " أحادية الآخر اللغوية " ممأسسة على فرضيه : لا يمكن أنا لا أتكلم إلا لغتي،وفي ذات الوقت لا يمكن أن أتكلم بلغة واحده "[50] هنا يُتوج هذا الصراع وإسنادا لدريدا ولكن باتجاه إعلامي يصير الفرد ضحية صراع بين لغتين عندها يتسرب الإنسان من وجوده العائلي،لأن سلطة اللغة التقنية والإعلامية تفرض حضورها بعنف مقيت فتذوب لغته السابقة ويُختزل الالتقاء الدلالي أو التفاهمي بين لغته ولغة العائلة،بين التكنولوجيا وبين العادات والتقاليد والجذور،بين رنين المسبحة ورنين الرسائل الالكترونية،بين الشوارع والتراب وبين الصور الالكترونية وتقنيات التصميم.

هنا يتراكم العبث واللامبالاة ،أقتبس هنا تحليل نهوند القادري : " انكفاء بعض الشباب نحو ذواتهم،لا مبالاتهم تجاه أهلهم،ارتيادهم المكثف للمقاهي الالكترونية،وأحياناً توجههم نحو تعبيرات دلالية مضادة تترجم بفورة موسيقى الروك أو العودة إلى كاريسمات الدين والسياسة،عروض الرسم التجريدي،الإغراءات الشهوانية للإعلان،جميعها طرق للعودة إلى الجسد المطرود من الاتصال الرقمي [51] .

هي إذا مساحة وجودية أغلق الإعلام والتكنولوجيا كل منافذها فمن يهرب من الحاسوب يتلقفه التلفاز ومن يهرب منه يلقاه المذياع ، ومن يهرب من جميعهم تلقاه  أجهزة بشرية تحولت لببغاوات تعيد صياغة الإعلام ،وكما قال ماكلوهان حين تشاهد التلفاز فأنت الشاشة.

ولكن ثمة نقلة بشرية هي أصلاً لم تُستوعب بعد،فعلى صعيد الطفل فهو ضحية صدمة بين عالم التلفزيون وعالم الواقع،حين يتراءى أمام ناظريه من خلف شاشات أثيرية عالم جميل مختلف تماماً لواقعه السيئ المتسلط عليه،بالتالي فالطفل كما يقول هوبير بونوا يفتش من خلال عالم التلفاز تقديم نفسه بأنه شخص متكامل  وبالتالي يحاول إثبات ذلك الأمر الذي يعرضه للنجاح والفشل: " إذا كانت النتيجة الفشل فإنه يرى نفسه عدماً أمام العالم .. وإذا نجح فإنه مضطراً أن يعيش إلهاً في عالم معدوم ..وفي جميع الحالات لا يكون هناك تكافؤ وتعادل بين العدم والمطلق،بين التفاهة والكمال.. بينما هما في ميزان واحد أمام المطلق أي أنهما قطبان متعادلان في ذات الإنسان. والإذلال يحس به في حالة الفشل،يتعادل مع الإذلال الذي يحس به في حال النجاح.. لأن إذلال الذات أو إذلال الغير متعادلان أمام المطلق ويؤديان على نفس النتيجة "[52] هنا نحن أمام يسميه بونوا الصدمة الأساسية للطفل تلك التي تثير خللاً سيرافق الطفل لسنين طوال من خلال محاولة التعويض أو إعادة ظروف الصدمة ليحس بحلاوة وهمية الحياة.

وعودة إلى الفرد والعائلة،فبعد أن ضاع أفرادها باتت الأقطاب فيها وقد شوهت سحنتها وسائل الإعلام وفقدت وجهها السابق،تعود لتفتش عن الحل في وسائل الإعلام ذاتها،وهو ما نراه عبر البرامج التفاعلية،برامج حلول المشاكل والهموم،نبض الشارع،صدى المجتمع ... وأسماء كثيرة لمعسكرات تدمير للإنسانية  يهرب الإنسان منها فيلجأ إليها.

لا يتوقف الأمر إلى هذا الحد،إذا كان حال الإنسان الكبير هو حال ما ذكرنا سابقاً من التشويش وتبلبل بوصلة الترشيد الصحيح لديه،فما بال الإنسان الذي لم يقشر طفولته بعد ؟ يقرع كوندري جرس الإنذار : " إن الأطفال اليوم فظون في تعاملهم مع بعضهم البعض الآخر،إذا كانوا لا يعرفون معنى الرحمة،إذا كانوا يستهزئون بالضعفاء ويحتقرون من في حاجة للمساعدة فهل هذا ما يشاهدنه في التلفزيون،في الحقيقة يحتل الفقراء والمساكين الشاشة الصغيرة بشكل نادر ... وعندما يظهرون على الشاشة في الغالب الأعم بشكل مثير للسخرية[53].

ثمة مسار سلوكي بات يضيق ويغلق المنافذ الآخر يتوج الاتجاه الجمعي وهو ما يثير القلق ،إننا أمام صناعة واقع يحتم مساره،وهو مفهوم أبدع بودريار في الخروج به حين كان محور كتابه المصطنع والاصطناع[54]،حين فصل الفعل أو الواقع عن مكنوناته القصديه، لم يكن يعري الواقع بقدر اصطناع الواقع الذي انفرد باستحواذنا.

طالما كل شيء معد سابقاً،طالما كل شيء محفوظ ضمن سيناريو دقيق فأي حاجة للإعلام ؟ يجيبنا بودريار : " أصبحت الآن اللعبة لعبة تمرير أجوبة معدة سلفاً "[55] .

هكذا يتم توجيه السلوك البشري،عبر اصطناع الواقع،وتحريض الجمهور ضمن دراما وسياسات معنى لا تمت للفكر بصله،عبر استنزاف الشعور واللعب على وتر الابتزاز الذهني وتعطيل مدركاته،هذا الأمر يحيلنا إلى ما قاله غوستاف لوبان وصاغه هاشم صالح في تقديمه لكتابه إ ذ قال : " هناك نمطين من الفكر فقط الأول يستخدم الفكرة المفهومية والثاني يستخدم الفكرة المجازية أو الصورية،الأول يعتمد على قوانين العقل والبرهان والمحاجة المنطقية وأما الثاني يعتمد على قوانين الذاكرة والخيال والتحريض "[56].

من هنا يمكن فهم تقسيم الأفكار بصياغة لوبان نفسه حين قال : الأفكار الطارئة التي تتشكل تحت تأثير اللحظة،نضرب على ذلك مثلاً الانبهار بفرد ما أو بعقيدة ما ونضع في الفئة الثانية الأفكار الأساسية التي تقدم لها البيئة والوراثة والرأي العام استقراراً كبيراً،نذكر من بينها الأفكار الدينية سابقاً.[57]

هنا يكمن ذاك الصراع داخل الفرد الإنساني بين مرجعياته وبنيته الأصلية وبين الإنسان وكيفيه صياغته من جديد من خلال العولمة ومن خلال المجتمع المفتوح بالمفهوم البيرديوي،هنا يتجلى ذاك الحراك العنيف في داخل المجتمعات العربية،وصراعات القيم ،صراع من يجذف وفق التيار انطلاقاً من مجاراة الفكر السائد الضاغط،وفكر يجذف عكس التيار انطلاقاً في الحفاظ على ما سبق تخزينه في الأفكار الأساسية للفرد،لكن حتى من يدافعون عن أفكارهم الأساسية هم أيضاً قبول بشروط لعبة باتوا يخضعون شيئاً فشيئاً لقوانينها وهذا ما تعكسه وسائل الإعلام المضادة أو الممانعة للتيار الأول . ولكن المشكلة إن كل فرد عربي بمعزل عن الآخر يعيش ذات المعركة في داخله.

رغم ذلك يبقى صراع الفرد ضمن هذه الدوائر ، ثمة قيم عابرة للقارات تحاور تسيير الإنسان ضمن قيم معدة سابقاً تعيدنا لبودريار حول تمرير الأجوبة.

 من هذا المنطلق يُوجه السلوك وفق آلية محددة عبر التشويش والمعاني الخاوية المتضاربة داخل الخطاب لكن المأساة تكمن في جذور سلوكنا بمعنى مرجعية السلوك نفسه وهنا نعود إلى الخمس المبادئ التي تحدد السلوك.

تقول ساندرا بول وملفين.ل في كتابهما نظريات وسائل الإعلام بأن للوجود خمس مبادئ ،تكون أولاً في طبيعة الواقع الذي نعيشه،ثم العملية التي من خلالها نتعرف على الواقع،وبعدها تفسيراتنا الذاتية والمعاني التي نصل إليها من ثم سلوكنا الشخصي وطبيعة النظام الاجتماعي[58].

هنا يمكننا تفسير أي غياب للإنسانية في واقعنا الحالي وأي تآمر على إنسانيتنا من إنسانيتنا،فإذا كان الواقع الذي نعيشه قد غدا واقعاً رمزي هذا إذا لم ينسف أصلاً ،وإذا كانت العملية التي نعرف من خلالها الواقع مربوطة بثنائيات وتشويش من وسائل الإعلام التي لا تتوانى تزرع المعنى ونقيضه رغم أن المشترك بينهما هو الخواء الحقيقي للمعنى ونقيضه،وإذا كانت العملية إذا هي عملية سلطوية بالمعنى القمعي للكلمة،فان تفسيراتنا الذاتية ستكون تفسير مشوشة غير صائبة،لأنها أصلا لم تعرف واقعها أو تعيشه وكون واقعنا اليوم افتراضي رمزي فان المعاني التي نصل إليها رمزية وافتراضيه،وهذا يحول سلوكنا بدوره إلى سلوك رمزي افتراضي يكاد يهوي في هوة الفراغ الواقع بين النقيضين،والنظام الاجتماعي بالتالي هو ذاته سيكون مجتمع افتراضي غير قابل للحياة خارج هذا الوهم الذي مارس سلطته عليه وفي ذات الواقع غير قادر على التنازل عن شظايا واقعه القديم،نحن أمام تدمير منهجي لرؤية العالم،نحن أمام طمس الإنسان وتحويل إلى المجتمعات إلى مجتمعات من العبيد الطوعة والمرنة لأنهم لا يعرفون أي شيء ،ولأنهم ربطوا أعنقاهم في حبال الإعلام المشدودة في أي لحظة لتدمير المجتمعات الواقعة تحت رحمة الصورة ورحمة الرموز الذي يجيد الخبث الإعلامي استحضارها.

ضمن كل ما ذكر تمر الأفكار دون مسائلتها تتسرب في طيات ذهننا وتستحوذ عليها،لكن ثمة أسئلة لم نسألها يوماً هي من تفضحنا أمام ذواتنا وتفتت هيبتنا إذ اعتقدنا أننا عرفنا الحقيقة  : هل ما كان في غزة حرب العدوان الإسرائيلي أم حرب الفرقان ؟ أي استحضار للتاريخ هنا ؟ شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟ ديوان المظالم في رام الله ؟ ألا إن حزب الله هم الغالبون ؟ مأساة كربلاء ؟ ولاية الفقيه .. ؟

هنا يتم تجاوز التاريخ وتجاوز الفكرة والظروف الموضوعية والاختلافات الزمكانية لصالح الجهة المسوقة للأدلوجة الممأسسة لها.هنا يتم قتل كل شيء وتصفية كل الواقع وزرع واقع غابر ينازع الحاضر في نفي المشاهد وتصنيع اغترابه في جهة وإحيائه في عالم آخر من جهة ،ضخ الحنين وانتهاك حرمة الشعور الإنساني الدفين وإيقاظه في غير موضعه ولغاية محدده هنا يكون قتل الإنسان والحقيقة والواقع في ذات لحظة.

قرونٌ مرت على هذا الإنسان يفتش عن العالم وعن حقيقته،عبث بكل خلايا الذهن،وعصر كل أفكاره،ولما اصطدم بخيبته أمام هذا المطلق المغري البعيد القريب،لم يعد للإنسان أن يقف حائراً أمام ألغازه،فبات هو يصنع الواقع ليهدمه،وبات هو يصنع الحقيقة لينفيها،وبات هو يكرر ذاته ويصنع نفسه ليفنيها،هي أزمة الوجود إذ تنبثق بصور أخرى،لكن الأمر تعداه فصار الإنسان يعيش في الصورة الرمزية للواقع وليس في الواقع،ولن يكون غريباً بعد سنين أن يبدأ الإنسان بالبحث عن آلية مجدية كي يجيد الخروج للحظات من وجوده الرمزي،كي يعرف إذا ما كان حياً بمعنى أن التسلية للعصر الجديد ستكون ليست في التلفاز او في الشبكة العنكبوتية أو الهاتف،بل ستكون التسلية كيف يتسلى بحياته الواقعية بضع ساعات.

النظام العالمي الجديد : الإبادة الجمعية للإنسان




ان الحديث عن النظام العالمي الجديد،يفتح لنا بوابات لا حصر لها  ،بما  تحويه العولمة والتكنولوجيا والحداثة ،والإعلام،نحن أمام عالم مُحرك من خلال هذه الدوائر المتداخلة،وأمام هيمنة جمعية متسلطة وقاهرة تفرضها خطابات سياسية وعلمية وثقافية فوقية  لا يكون للقاعدة فيها أي دور في بناء وتشكيل هذه المنظومة الهرمية.



تختزل الفوارق العلمية والأدبية والاقتصادية والسياسية،فيكون تصدير الثقافة كتصدير أي سلعة،وعليه يصير تُذويب وصهر الفوارق بين التابع والمتبوع على قول ابن خلدون: " المغلوب يتطبع بطباع الغالب " هنا يصير القوي المتسلط صاحب الجيوش الجرارة والشركات العابرة للقرارات المُشكل لطباع الضعفاء في دول العالم الثالث،يتم عبرها الترويج لكوكاكولا كما يُروج لسلنديون أو للارا فابيان، ضمن هذا المعطى تُقتل الخصوصية الثقافية والسمات الأساسية المشكلة للشعوب،عبر نسخ الثقافة الطاغية لتصير كل الشعوب نُسخ مكرر عن الصورة الأم.

وان كنت أوافق بشكل جزئي ما قاله بودريار بأن الولايات المتحدة ذاتها هي : " ضحية لنفس الظاهرة مثلها في ذلك مثل بقية العالم ... فالبنية هي المهيمنة "[59] ،إن الإشكالية تكمن في بنية العولمة ذاتها المتسربة من خلال النمط الحياتي الكلي للغرب،ولكن هذا لا يعني إخراج الولايات المتحدة تجر أثواب الملائكة ورائها. لقد وصل المهيمنون إلى مرحلة يصعب فيها التراجع،يذكرنا هذا بالبيولوجيين الذين اخترعوا جراثيماً تسربت من مختبراتهم لتغزو العالم،هو تماماً المشهد يتكرر في الغرب الذي صنع الإنسان الغربي ثم تمرد عليه ليغزو العالم مع صعوبة السير العكسي لاحقاً.

لقد تسرب اللباس والأزياء والموسيقى والمنتجات والثقافة الغربية كلها،بات الصراع عنيفاً ضمن موجات من التغريب والتشريق،هو بالضبط ما أنتج ردات الفعل العكسية في المجتمعات الضعيفة،ضمن البحث عن الهوية والحنين بصورها الجذرية الماقبلية.

من الجدير ذكره، عبارة للمفكر الجابري حول الاختراق الثقافي،فهو يقول :" وإذا كانت الثقافة يمكن أن تعرف بأنها المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم،وعن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان وقدراته وحدوده .. فإن الاختراق يهدف إلى السيطرة على المنظومات والأنساق المتداخلة الكامنة والمكونة لبنية الثقافة العربية وبالتالي اختراق الهوية الحضارية والإجهاز والسيطرة على وسائله السمع-بصرية "[60].. أمام هيمنة وسائل الإعلام وقوتها التأثيرية تتغير نظرة المجتمع للإنسان،هي حالة من قتل الخصوصية ومن دس وتكثيف الأفكار المصدرة للمجتمعات الضعيفة المستوردة.

الرافض لهيمنة العولمة ولهيمنة الإعلام لن يكون بأكثر من متخلف وفق رؤية الطرف القوي،هكذا ينظر الإعلام لدول العالم الثالث وهذا نفسه ما أعلنه وبكل صراحة فرانسيس فوكوياما صاحب أطروحة نهاية التاريخ إذ قال : " أن العولمة لن تتراجع،لأن الذي يدفعها هو تقدم التقنية المعلوماتية والذي لا يمكن مقاومته فالأمم التي ترفضها محكوم عليها بأن تبقى متخلفة "[61].

يقوم الإعلام بدعم مفضوح للتكنولوجيا التي هي أصلا من خرج من رحمها،وهكذا تزخر البرامج كمشاريع عملاقة،وبنايات،ووثائقيات تزرع فكرة قدرة الإنسان على ابتكار آليات ليتفوق على ذاته،بحيث يبني البروج والسدود والعمارات،في مقابل ذلك يتجاهل الإعلام حقائق كونيه بالغة الخطورة  مفادها أنه يتم إهدار 20 مليار طن من التربة الخصبة سنوياً ... كما يتم استهلاك موارد طبيعية أكثر مما ينتجه الكوكب سنوياً بنحو 20%،ويستهلك سكان الدول الغنية الذين يشكلون 15% من سكان العالم نحو 56% من تلك الموارد،كما تستهلك الولايات المتحدة التي تشكل 5% من سكان العالم ربع الاستهلاك العالمي.[62] .

لا يمكن فصل العولمة عن شكلها فهي  : " الامتداد بالمعنى التاريخي والسياسي والمعرفي والاقتصادي لعملية التطور الرأسمالي التي لم تعرف التوقف عن الحركة والصراع والتوسع والنمو،المتسارع والبطيء،منذ مرحلتها الجنينية الأولى في القرن الخامس عشر،إلى مرحلة نشوئها في القرن الثامن عشر،ومن ثم تطورها إلى شكلها الإمبريالي في نهاية القرن التاسع عشر،هذه المرحلة وصل فيها النظام الرأسمالي طوره الامبريالي المعولم الذي يسعى استناداً إلى منطق إرادة القوة المتوحشة – إلى العودة بشعوب العالم إلى جوهر وقواعد مرحلة النشوء الأولى للرأسمالية والياتها التدميرية القائمة على قواعد المنافسة الأنانية التي تضمن هيمنة الأقوى ... "[63] . إن هيمنة الاقتصاد هي من سيفرض في النهاية هيمنة الثقافة والمعرفة والسلطة،هي التي بمقدورها وعبر هذه الهيمنة الاحتوائية أن تفرض قواعد اللعبة وأن تحدد الفاعلين في الحقل العالمي،وهذ من بمقدورها أن تفرض ذاتها كالاحتلال المباشر الذي شهده عهد الاستعمار السابق أو أن تفرض وجودها عبر التبعية والخضوع وهو ما يجري حالياً بشقيه كحال العراق في الإطار الأول وكحال مصر في أو السعودية وغيرها من الدول في الحالة الثانية.

غياب قوة رادعة أو غياب نظام القطبين، يفضي الساحة ويفرغها للقوي المستفرد كحالة الولايات المتحدة،خصوصاً في ظل فراغ سياسي وثقافي وانكسار ايدولوجي،بمعنى تراجع الأيدلوجيات وانكسارها لصالح الليبرالية الجديدة وثقافة الاستهلاك مع ما تحويه من طموح لإزالة العوائق الجمركية وتأمين حرية السوق وتأمين البضائع كل هذا يصير ضمن منظمة التجارة العالمية التي تستحوذ على الخصوصية الوطنية والدولية وتصير هي المسيطر ضمناً على قرارات الدول وهي بالتالي تقرر ما تقرره وفق سياستها وبالتالي يصير توزيع الحصص والموارد العالمية منوط بمدى استعدادية الدولة على اعتناق الرأسمالية والسوق الدولي،واعتناق هذا الاتجاه التجاري يفضي إلى فتح الأبواب لكافة التوجهات الثقافية والفكرية المرافقة له.

على أثر هذا الانفتاح القسري،تفتح وسائل الإعلام بوابتها  للشركات التجارية العابرة للقارات كالمكدونالز والجلاكسي، يرافقها ويتسلل في ظلها برامج هابطة تعطي دخلاً هائلاً يشتهيه رأسماليي الطرف الضعيف،هكذا تصير ثقافة ستار أكاديمي أو سوبر ستار ضرباً من ضروب التدمير اللاأخلاقي ،ومنه يبدأ الخلل الاجتماعي بين ما يعرض وبين ما هو موجود،هكذا يبدأ نسف البعد القيمي للمجتمع عبر المستنفذين والمستفيدين.يرافقه صراع الأنماط الحياتية والثقافية والمعرفية.وثمة اتجاه آخر هو قيام الوسائل الإعلامية الغربية ذاتها بترجمة ما تبثه،أو عبر إقامة قنوات تلفزيونية ناطقة بلغة غيرها  كال bbc  وال cnbc  أو روسيا اليوم وغيرهم ..وقد يرد من يرد مدعياً بوجود إذاعات عربية ناطقة بلغات أجنبية،ولكن ثمة سؤال يجب أن نسأله  : هل الإذاعات العربية الناطقة بلغات أجنبية خارجة عن منطق الخطاب الغربي ؟ وهو ما يجعلنا نقول دون أي جذرية بأن الخطاب العربي باللغات الأجنبية هو تكرار للخطاب الغربي بمرجعية عبر وهو خطاب لا يستوعب اللغة فحسب بل يستوعب البعد القيمي الغربي المؤكد على النمط والشكل الحالي دون خلخلة قواعده بل ضمن الصراع على الزوايا الجزئية للعولمة ذاتها وللخصوصية الثقافية التي تصير عبر هذه القنوات معرض تسويق تراثي بمعنى إظهارها الثقافة كتراث سابق لواقع غير موجود خارج الإطار المفهومي للغرب.أما عن الجزئيات التي قد يتساءل عنها البعض فلا يمكن إهمال أهمها وهي الصراع العنيف على المشاهد وليس على الأفكار ذاتها،من هنا فالشكل السائد للإعلام العربي هو الشكل الغربي وليس العربي. فيما المحتوى فهو صانع ومكرس للعولمة منبهر بالتكنولوجيا والعلوم وغير فاصل أو متناسي تماماً الغزو الثقافي في قالبه العلمي.

المحصلة لن تكون سوى عنف مختلف المستويات لخلق ثقافه واحدة،ثقافة تستطيع فرض ما فشل به الاستعمار والصراع التاريخي بين الثقافات والحضارات والاقتصاديات، يقول ادوار سعيد في كتابه الثقافة والامبريالية  : " إن الإعلاميات ليست شبكة عملية متكاملة تكاملاً كلياً فحسب،بل هي كذلك نهج من أنهاج الإفصاح بالغ الكفاءة يحيك العالم ويحيله نسيجاً واحداً ... إن هذا النظام العالمي الذي ينتج الثقافة والاقتصاد،والقوة السياسية جنباً إلى جنب مع معاملاتها العسكرية والسكانية ويفصح عنها جميعاً،ليملك ميلاً ممأسساً لإنتاج صور – عبر قومية خارجة على المقياس تمارس الآن إعادة توجيه الإنشاء الاجتماعي والعملية الاجتماعية العالميين كليهما "[64].

لكل فعل ردة فعل،ضمن هذا الفعل المعولم القاضي بالانفتاح الثقافي يكون رد الفعل للثقافات المستهدفة يأخذ عدة أشكال بين الرد العنيف والمسالم والمتقوقع،لكن ثمة رد مختلف تماماً،وهو الانفتاح الجزئي او كما يسميه يحيى اليحياوي " الأمن الثقافي " إذ يقول  : " ما تهابه الصفوة الحاكمة ونخبتها المثقفة ليس الانفتاح كمبدأ أو كخطاب بقدر ما تهاب تبعاته المحتملة كمطالبة الشعوب والأمم بحقها في الديمقراطية وبحقها في ممارسة السلطة وبحقها في الاتصال والتواصل .. وهو ما يدفعها طبيعياً إلى التعامل مع مسألة الأمن الثقافي من منطلق امني محض لا من منطلقات أخرى"  [65] .

لا يمكن إذا فصل السلطة عن المعرفة،فكما يقول محمد سبيلا في دراسته عن التحولات الكبرى للحداثة ،حول المعرفة الحداثية : " غايتها السيطرة،الداخلية والخارجية على الإنسان،وعلى الطبيعة،أو بعبارة أدق إنها سيطرة على الطبيعة عبر سيطرة على الإنسان،وارتباط المعرفة بالسيطرة والقوة لا يطال الطبيعة والعلوم الطبيعية وحدها،بل يطال الإنسان والعلوم الإنسانية ذاتها،حين يختلط هم المعرفة والتحرر بهم السيطرة والتحكم "[66] هكذا في نفس الاتجاه يصير الإعلام مالك المعرفة يملك السلطة،فأنت تفقد سلطتك حين تسأل عابر سبيل عن شارع كذا تصير رهن إشارته إلا أن تستدل،وهكذا يبقى المشاهد والمستمع رهن إشارة الإعلام يوجهه حيث يشاء دون أن يستدل.

أمام هذه الصورة القاتمة لواقع موجهة،يُقتل الإنسان الضعيف،والتفرد للغالب القوي العارف،هي نظام الغابة اذا،فلا مساحة للضعيف الغافل،هي سحب البساط الإنساني وإنهاء مشروعه التاريخي ومشروع الإنسان الذي غلف كل حركة التطور البشري.

بموازاة ذلك يجري إذلال ممنهج،إذلال المشاهد صاحب الخصوصية الثقافية الذي يرى بثقافته تنهار أمام كبرى الشركات وأمام الاستثمار القاتل المجفف لكل موارد ثقافته ،إذلال يظهر يعطي للمشاهد نتيجة مفادها أن الواقع كله متآمر عليه وبالتالي فإن حركة التغيير هي أكبر مما يستطيع،إن الإعلام يرغم الفرد على الاستكانة لأن المؤسسة أضخم منه ومن وجوده وعليه فإن الحس التغيري يموت،وإذا ما نما فإن المشاهد يزرع في جوفه حجم التحدي لذا فردة الفعل تكون ضخمة بمقدار الرعب الذي زرعته وسائل الإعلام بالمتلقي. وإذا لم يستكن فسوف يبقى مطارداً للوسائل الإعلامية مقتنعاً أن مسيحه سيطل من ثنايا نشرة إخبارية أو عرض درامي.


بين الإنسان والإنسان


إشارات وبعض حديث




 
على ضوء ما ذكر،وفي ظل هذا المحدث الجلل،تدور أسئلة عديدة : هل ما ذكرته هو الواقع ؟ ألم أؤول كما تشتهي رغبتي ؟ أليس مبالغاً كل هذا الحديث ؟ أليس هذا الأثر الذي فينا هو بعض من سلطة خطاب عنيفة الرمز والمعنى ؟

جميل لو يكون حال الإنسان في وضعية لا تثير القلق إلى درجة التشكيك فيها،وكم يكون رائعاً لو كان الخطأ هو مآل بحثنا ولو كانت النتيجة على غير ما توصلنا.

إن إنسان اليوم يفقد كثيراً من التعريفات التي عرفها به الفلاسفة فالإنسان المخير بالفكر الأفلاطوني والديني والفلسفي بات يفقد خياراته في ظل الإعلام.

والشهوات الثلاث التي اشتغل في تعريفها وتحليلها أرسطو والفارابي وابن سينا،ينخر بها الخلل الذي تحدثه وسائل الإعلام بقمع الفكر والقوى الناطقة وإحياء الشهوات والغضبات عبر بث التحريض والاستهلاك في آن.

جميعنا بل كلنا نحترم المثل القائل : " كن كالألمان بالانضباط " وتعمل الشركات والمؤسسات على بث الانضباط عبر الدوام في الوقت المحدد،أليس هذا بحد ذاته نسفاً للإنسان الذي يجب أن يكون في انضباط الآلة ؟ من قال أن على الإنسان أن ينضبط إلى حدود الدقائق ؟ أليس هذا قمعاً للبنية الإنسانية ولبنية الحياة اليومية؟

أي غباء ووقاحة إعلامية تحمل شعارات تدميرية : " خليك بالبيت " ، " بعد اليوم ما في نوم " ، " شاهد أخبار المستقبل لتحصل على كل المشهد " ... أليس كل هذه الشعارات تحمل كذباً ونفاقاً يهوي عند أول خطوة نقدية ؟

وعلى وقع التغيرات بات الإنسان الحديث نفسه في حالة من البلادة،لقد باتت المؤسسات تنمو فوق ناظريه،وبات يرى فعله أقل تأثيراً ، هي عقدة المؤسسة التي خلقها العصر الحديث.

حالة من الصدمة من التسارع المثير للدهشة،عدم قدرة الإنسان على مواكبة تقدمه،التقدم أكثر مما يسمح التقدم ذاته،هي كلها مساهمات في صناعة الإنسان الجديد،الإنسان الذي دُثرت جوانب عيناه كفرس أطلق للريح لا يرى أكثر مما تسمح له الحُجب.

حقائق واهية،واقع مزيف،موت يعاد تركيبه،تفاصيل حياتيه لا تخرج عن مدار الاحتيال على الحواس،ثلاثي الأبعاد،أجهزة صنع روائح،مؤثرات صوتية وحسية،مجسات،كل الواقع بات يُعاد الكترونياً وربما إنسان العصر الجديد سيكون كذلك الكترونياً،مبرمجاً كما تبرمج الحواس،أو كما تستنسخ الكائنات الحية في المختبرات.

إن الخلل نفسه قد تعدى الصواب والخطأ،إذ باتت المشكلة في انهيار قيمي شامل تتجلى من خلال تلك الحروب الهادئة التي تخوضها الشبكات الالكترونية ووسائل الإعلام وتتجلى في الصراع على الربح السريع واحتلال السوق دون اعتبار لأي مرجعيات أخلاقية وإنسانية، بالتالي فإن الإشكالية هي انهيار ذاك الضمير الأخلاقي الذي تحدث عنه أفلاطون معيار كل الأشياء،فقد بات المعيار الإنساني اليوم مختلفاً تماماً عما كان،ولم تعد القيمة الأخلاقية والقيمة هي مرجعية الإنسان المعاصر.

ولكي يعود الإنسان إنساناً عليه أن يقمع شهواته،وعليه فإنا الإنسان الحديث،وفق الفارابي لم يعد إنساناً،،أما وفق ابن خلدون الذي رأى بالإنسان كائن اجتماعي عليه التآزر والتعاون للحياة،فقد باتت هذه الاجتماعية على شفا جرفٍ هارٍ،فهي آخذة بالذوبان والتلاشي في ظل نظام اتصالي جديد،يفتح المجتمع على الفرد وهو في منزله،ويلغي الحاجات التواصلية لكل مرافق الحياة.

وإذا كنا سنعود بتواطيء من القلق إلا ذاتنا،فوحده ديكارت قد يمنحنا الاعتبار حين نفكر،وأنا أفكر إذاً أنا موجود،لكن السؤال هل فعلاً أنا أفكر ؟ أنا أفكر أم أن عقلي مأجور لجهات إعلامية بعد أن تقاعدت العقول لقاء حفنات من الملذات التي تحمل طابع لا نفاذي حتى ينفذ مشتهيها،وهل أن أفكر بحرية ملأ العقل أم أفكر قدر ما تسمح لي البنية العقلية المُحتلة للإنسان .

وعلى أثر كل ذلك يعود الإعلام للتباكي على قتلى مراسليه،بأنهم قتلى الإعلام والحقيقة،لكنهم ليسو كذلك هم قتلى مأساتهم،هم قتلى وضحايا الإنسانية،ومع ذلك نسأل : يفتش الإعلام عن الضحايا في صفوفه،لكنه لا يفتش عن الضحايا  الذين قتلوا بيديه،كم من تحريض ومن خبر تحول إلى قضية واندلع كان سببه الإعلام ؟

في ظل هذا الصعود المَهيب للحس اللإنساني في داخل إنسان العصر الحديث،يتحول العالم إلى رمزي والإنسان إلى أرقام،والحياة إلى مشروع تجاري،يتولد مفهوم المغترب عن هذه الدنيا،أو مفهوم اللامنتمي : " إنني وقد نفذت إلى قلب الإنسانية لم أجد شيئاً إنسانيا في هذا الكاريكاتير الصامت "[67]، " لا أملك شيئاً ولا أستحق شيئاً وبالرغم من كل ذلك،أشعر بالحاجة إلى التعويض "[68]. هي حالة ستتفشى بشكل ملحوظ في سنينا القادمة،أمام عالم يفقد روابطه وأحاسيسه وحميمية الوجود فيه وإن كان ولسون قد أجاد التعبير عنه فكأننا سنحتاج ألف ولسون في المرحلة القادمة.

المراجع :


                                                                                                                                       


1.      ابن طفيل. حي بن يقظان. تونس-بيروت: دار الآفاق الجديدة، د.ذ.

2.      ابن منظور. قاموس ابن منظور. المجلد المجلد السادس. بيروت، بيروت: دار صادر للطباعة والنشر،دار بيروت للطباعة والنشر، 1968.

3.      ابو بكر الرازي " إبن مسوكيه ". تهذيب الاخلاق. بيروت: دار صادر، 2006.

4.      ابو بكر الرازي. رسائل فلسفيه. بيروت: دار الآفاق الجديده، 1979.

5.      أبو حيان التوحيدي. المقابسات. بغداد: مطبعة الارشاد، 1970.

6.      أبي علي بن سينا. الاشارات والتنبيهات. دار المعارف، 1958.

7.      ادوارد سعيد. الثقافة والامبريالية. ترجمة كمال أبو أديب. بيروت: دار الآداب، 1997.

8.      أفلاطون. الجمهور. ترجمة عيسى الحسن. عمان: الأهلية للنشر والتوزيع، 2009.

9.      الفارابي. رسالتان فلسفيتان. القاهرة: دار المناهل، 1987.

10.  الفارابي. كتاب التنبيه على سبيل السعادة. بيروت: دار المناهل، 1985.

11.  القرآن الكريم.

12.  الكتاب المقدس - العهد القديم والعهد الجديد.

13.  الكندي. كتاب الكندي إلى المعتصم بالله. القاهرة: دار احياء الكتب العربية، 1948.

14.  إمانويل كانط. أسس ميتافيزيقيا الأخلاق. ترجمة د.محمد الشنيطي. بيروت: دار النهضة العربية، 1979.

15.  باتر محمد علي وردم. العولمة ومستقبل الأرض. عمان: الأهلية للتوزيع والنشر، 2003.

16.  بتراند راسل. هل للانسان مستقبل ؟ ترجمة عايد الرباط. القاهرة: الدار القومية للطباعة والنشر، 1968.

17.  ثربانتس. دون كوخته. ترجمة عبدالرحمن بدوي. دار المدى للثقافة والنشر، 1998.

18.  جاك داريدا. احادية الآخر اللغوية. ترجمة د.عمر مهيبل. بيروت: منشورات الاختلاف،الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008.

19.  جان بودريار. الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع. ترجمة منير الحجوجي،أحمد قصوار. الدار البيضاء: دار توبقال، 2006.

20.  جان بودريار. المصطنع والاصطناع. ترجمة د.جوزيف عبدالله. بيروت: المنظمة العربية للترجمة، 2008.

21.  جميل صليبا. تاريخ الفلسفة العربية. بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1973.

22.  حليم بركات. المجتمع العربي في القرن العشرين. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1999.

23.  د.حسن نافعة. مباديء علم السياسة . القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، 2002.

24.  ريمون غوش. الفلسفة السياسية في العهد السقراطي. بيروت: دار الساقي، 2008.

25.  رينيه ديكارت. مقالة الطريق. ترجمة د.جميل صليبا. بيروت: اللجنة الدولية لترجمة الروائع الانسانية، 1953.

26.  سلامة موسى. حرية الفكر. القاهرة: د.ن، 1974.

27.  سمير أمين وآخرون. المجتمع والاقتصاد أمام العولمة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004.

28.  صباح ياسين. الاعلام : النسق القيمي وهيمنة القوة. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2006.

29.  طه حسين. قادة الفكر. مصر: دار المعارف، 1959.

30.  عبدالرحمن بن محمد بن خلدون. مقدمة ابن خلدون. بيروت: مؤسسة المعارف، 2007.

31.  عبدالرزاق الدُواي. موت الانسان في الخطاب الفلسفي المعاصر. بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، 1992.

32.  غوستاف لوبون. سيكولوجية الجماهير. ترجمة هاشم صالح. بيروت: دار الساقي، 1990.

33.  فراس السواح. جلجامش،ملحمة الرافدين الخالدة. دمشق: دار علاء الدين، 2002.

34.  فرانسيس وولف. سقراط. ترجمة منصور القاضي،. بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 2008.

35.  فريدريك نيتشه. فلسفة الأخلاق. بيروت: دار التنوير للطباعة والنشر، 2007.

36.  فريدريك. هكذا تكلم زاردشت. ترجمة فليكس فارس. بيروت: دار القلم، د.ن.

      37. كولن ولسون،اللامنتمي.بيروت : دار الآداب،2004

38.  مجد عبدالحافظ. التلفزيون خطر على الديمقراطية. الجيزة، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة ، 2005.

39.  محمد عابد الجابري. العقل السياسي العربي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2007.

40.  ملفين،ل.ديظير - سادنرا بول روكيتش. نظريات وسائل الاعلام. ترجمة كمال عبدالرؤوف. القاهرة: الدار الدولية للنشر والتوزيع، 1993.

41.  ميشال فوكو. تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي. ترجمة سعيد بنكراد. الدار البيضاء: المركز الثقافي المغربي، 2006.

42.  ميشال فوكو. جينالوجيا المعرفة. ترجمة أحمد السطات،عبدالسلام بن عبدالعالي. الدار البيضاء: دار توبقال، 1994.

43.  يحيى اليحياوي. في العولمة والتكنولوجيا والثقافة. بيروت: دار الطليعة، 2002.



مجلات :



1.     مجلة فكر ونقد،الدار البيضاء،المغرب : الأعداد 23، 21، 3

2.     مجلة أوراق فلسفية،الجيزة،مصر : العدد الخامس عشر 2006 .



مواقع الكترونية :



1.     موقع الاذاعة الألمانية دويتشه فيلة : www.dw-world.de


 

[1] قاموس ابن منظور،ابن منظور،المجلد السادس ص 10
[2] يرجح الرازي أن إنسان مشتق من الأنس لأن الأنس طبيعي في الإنسان هو الذي ينبغي أن نحرص عليه ونكتسبه مع أبناء جنسنا ( راجع تهذيب الأخلاق،ص 94 )
[3] ملحمة جلجامش،فراس السواح،منشورات دار علاء الدين ص 194
[4] حرية الفكر وأبطالها في التاريخ،سلامة موسى،ص 31
[5] فرانسيس وولف،سقراط،ص25
[6] الجمهورية، أفلاطون، ص 23
[7] مبادئ علم السياسة،د.حسن نافعة،ص 75
[8] الفلسفة السياسية في العهد السقراطي،ريمون غوش،ص 144
[9] الاقتباسات من الكتاب المقدس،طبعة دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط
[10] كتاب الكندي إلى المعتصم بالله، الكندي، ص 84 - 85
[11] رسالتان فلسفيتان، الفارابي، ص106
[12] الفارابي،كتاب التنبيه على سبيل السعادة،ص57
[13] الإشارات والتنبيهات،أبي علي بن سينا،ص 435،437
[14] رسائل فلسفية،أبو بكر الرازي،ص39
[15] الفارابي،كتاب التنبيه على سبيل السعادة،دار المناهل
[16] الرازي،تهذيب الأخلاق،دار صادر
[17] حي بن يقظان،ابن طفيل،ص232
[18] مقدمة ابن خلدون،عبد الرحمن بن محمد بن خلدون،ص60
[19] مقالة الطريق،رينيه ديكارت، ص 27-28
[20] دون كوخته،ثربانتس،ص 21
[21] أسس ميتافيزيقيا الأخلاق،كانط،ص 57
[22] هل للإنسان مستقبل،برتراند راسل،ص 10
[23]  المصدر السابق ،ص 12
[24] هكذا تكلم زاردشت،فريدريك نيتشه،ص 61
[25] هكذا تكلم زاردشت،فريدريك نيتشه ص 128
[26] تاريخ الجنون،ميشال فوكو،ص52 - 55
[27] موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر ،د.عبد الرازق الدُواي،ص54
[28] المجتمع العربي في القرن العشرين،حليم بركان،ص638
[29] موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر،د.عبدا لرازق الدُواي،ص21
[30] العقل السياسي العربي – 3،محمد عابد الجابري،ص12
[31] المصدر السابق
[32] منزلة الفن عند الفارابي من خلال صناعتي الشعر والموسيقى،العربي الطاهري،مجلة أوراق فلسفية، ص 137
[33] الصورة الفنية في التراث النقدي العربي،جابر عصفور،ص 21
[34] تاريخ الفلسفة العربية،جميل صليبا،ص157
[35] العرب والإعلام الفضائي،مجموعة كتاب ومفكرين : دراسة عبد الرحمن عزي،21
[36] المصدر السابق
[37]الموقع الالكتروني لوكالة دويتشه فيله،23 ديسمبر 2007 : www.dw-world.de
[38] الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع،جان بودريار،ص38
[39] علم الاجتماع الانعكاسي،بيير بورديو،ص125
[40] جينولوجيا المعرفة،ميشال فوكو،ص 26
[41] جينولوجيا المعرفة،ميشال فوكو،ص 24
[42] تهذيب الأخلاق،الرازي،ص  38
[43] كتاب التنبيه على سبيل السعادة،الفارابي،ص67
[44] الفكر الجذري: أطروحة موت الواقع،جان بودريار،ص147
[45] المصطنع والاصطناع،جان بودريار،ص 149
[46] التلفزيون واليات التلاعب بالعقول،بيير بورديو،ص67
[47] مارك أوجي،ما نفقده الأحياء وليس الأموات،ترجمة :حسن حيرا،مجلة فكر ونقد العدد 23
[48] التلفزيون خطر على الديمقراطية،ترجمة ودراسة : مجدي عبد الحافظ،ص30
[49] المصدر السابق
[50]،ص38 أحادية الآخر اللغوية،جاك داريدا
[51] مجلة باحثات،دراسة نهوند قادري،ص152
[52]  الصدمة النفسية الأساسية،هوبير بونوا،ترجمة : عبد الله عاصم،مجلة فكر ونقد، العدد 21
[53] التلفزيون خطر على الديمقراطية،ترجمة ودراسة : مجدي عبد الحافظ،ص105 - 106
[54] المصطنع والاصطناع،جان بودريار،ترجمة د.جوزيف عبد الله
[55] المصطنع والاصطناع،جان بودريار،ص 51
[56] سيكولوجية الجماهير،غوستاف لوبان،ص 33
[57] سيكولوجية الجماهير،غوستاف لوبان،ص 81
[58] نظريات وسائل الإعلام،ملفين،ل.ديظير،ساندرا بول،ص343
[59] الفكر الجذري:أطروحة موت الواقع،جان بودريار،ص 84
[60] الإعلام : النسق القيمي وهيمنة القوة،صباح ياسين، ص 59
[61] العولمة ومستقبل الأرض،باتر محمد علي ووردم، ص 15
[62] العولمة ومستقبل الأرض،باتر محمد علي ووردم، ص 34 - 35
[63]غازي الصواني ، ص 30 المجتمع والاقتصاد أم العولمة،
[64] الثقافة والإمبريالية،ادوارد سعيد، ص366
[65] في العولمة والتكنولوجيا والثقافة ،يحيى اليحياوي، ص 50
[66] محمد سبيلا،التحولات الكبرى للحداثة،مجلة فكر ونقد
[67] اللامنتمي،كولن ولسون،ص 11،
[68] اللامنتمي،كولن ولسون،ص 10

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق