الثلاثاء، 28 يونيو 2011

العنف وتآكل الضوابط في الداخل الفلسطيني


العنف وتآكل الضوابط في الداخل الفلسطيني

 فادي عاصلة

لا شك في أن ظاهرة العنف  لدى الفلسطينيين في الداخل  آخذة بالتفاقم بشكل مقلق، إذ يتبين من الإحصائيات الرسمية أن 60% من ضحايا العنف في إسرائيل عام 2010 هم من الفلسطينيين، كما أن  هناك 80 فلسطيني من بين 120 قتيل في إسرائيل على خلفية حوادث عنف. بالإضافة ل 80% من حوادث إطلاق النار تحدث في الوسط الفلسطيني.

هذه النتائج يجب أن تفتح باب التساؤل الذي يفضي لإجابة تكون نصف حل لا بد أن يكون قريب. إن العنف بهذا الشكل المتفشي في الداخل يُشير لأزمة داخلية حقيقية يجب أن تقودنا للبحث في مدى التضامن الاجتماعي الداخلي، والتي إذا ترجمناها بلغة  بوردو، نكون أمام ثلاثة منظومات رمزية تخلق هذا التضامن، إما الفن، أو الدين، أو اللغة.

المنظومات الرمزية هي وحدها قادرة على إنتاج أشكال رمزية تكون مهيأة للقيام بمهمة الضبط الاجتماعي وعلى فتح مجالات التضامن، فاللغة تحوي بداخلها ذاك البعد الروحي والقومي، الفوق تاريخي المتجاوز للزمكانية ( الزمان  - المكان ) ، كما الدين الذي يشكل بدوره المرجعية الأخلاقية والروحانية المؤسسة لبنية قيمية ومنظومة من التصرفات والممارسات، أما الفن فيكون بدوره مُعبراً عن هذا الحراك مجسداً له ومؤسساً لمخيال رمزي جمعي يلتقي في رموزه على اختلافها سواء الصورية أو الصوتية أو الشعرية جمهرة المستقبلين القادرين على تفكيك هذه الرموز واستكنان الرسائل الداخلية المتوارية خلف مجالات الترميز.

هذه المنظومات كلها بالإضافة إلى المنظومات الداخلية السيكولوجية والسيميائية بما تحويه من ثقافة وعادات وتقاليد وأنماط حياة تكون على شفا جرفٍ هارٍ عندما يكون التغير الاجتماعي فائقاً وحاداً بحيث يصعب مواكبته، بالتالي تصير المنظومات الاجتماعية متغيرة وغير مضبوطة في ذاتها، يرافقها صراع قيمي عنيف وتفكك اجتماعي موغلٌ في الشرخ.

أمام حالة كهذه يعيشها المجتمع الفلسطيني فرضتها دولة الاحتلال الوليدة، الانقطاع عن الامتداد العربي والفلسطيني، الضخ القاسي للثقافات الأخرى على حساب الثقافة المحلية، المأسسة وإعادة الهيكلة الاجتماعية من خلل اللعب على تناقضات الفلسطينيين لجنيها مكاسب سياسية، العولمة والاتصالات وعصر التقنية، أمام كل هذه المركبات بدأت تتراجع الضوابط الاجتماعية فالعادات والتقاليد والثقافة كلها في حياة فلسطينيي الداخل باتت في حالة دفاعية قاهرة،مقابل تسلل فوضوي لقيم أخرى.

الدين بدوره تم تشذيبه من خلال التاريخ الإسلامي ذاته ومن خلال الاحتلال، بحيث تم إفراغ الدين من مضمونه الروحي وأبعاده الإنسانية لدين سياسي مبني على العقائدية وعلى الواجبات والالتزام ،والمنفعة بين الإنسان والله ، كما كانت السياسة حاضرة لتفرغ الدين من مفهومه الثوري فالقرآن الذي زود كل الحركات التاريخية بالتوجه الثوري لم يكن حاضراً ليعاد تأويله في اجتهادية تفضي لانصاف البنى الاجتماعية في مواجهة الاحتلال، بقدر ما صار مدخلاً اسرائيلياً للضبط.

الفن بدوره لم يكن بعيداً عن هذا وذاك، فالبحث عن منبر، وآليات اخضاع الفن الاسرائيلية توزعت على شتى المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والأخلاقية أحياناً.

وصولاً إلى هذا المستوى يكون الدين والثقافة والعادات والتقاليد والفن والفكر والأدب، كله في حالة انهاك تام، متعب في تفاصيل البيروقراطية المؤسساتية وأصناف الرقابة والإغراءات ومجالات التقدم.

يميز غوستاف لوبون في كتابه سيكولوجية الجماهير بين صنفين من الأفكار، الأفكار الأساسية والأفكار الآنية الأولى تكون ذات طابع خصوصي مردها المنشأ، والأخرى تكون طارئة جراء تفاعل الفرد ضمن حيزات معيشية مختلفة، وتكون هذه الأفكار مكتسبة بشكل آني تحت ضغط تأثيرات وتفاعلات قد تزول الأفكار بزوالها، ولكن الصراع يكون عندما تكون الأفكار الآنية هي النقيض التام للأفكار الأساسية، هنا تتبلور حالة من الاغترابية والازدواجية بحيث يصير الشخص مرتبكاً بين الثنائيات متنقلاً دون أساسات منطقية، وهي الحالة التي عاشها عرب عصر النهضة بين ثقافة العرب والمسلمين وبين ثقافة الغرب.

في الحالة الفلسطينية المفهوم يصير تورطاً بين الانتماء الفلسطيني مع ما يحويه هذا الانتماء، وبين ردة فعل تفرضها هجمة الثقافة الأخرى التي تصارع الحيز الانتمائي.

هنا يتوارد السؤال المهم : ماذا عن المؤسسات الاسرائيلية المختلفة ؟ ماذا عن الأمن والشرطة وآليات الردع التي تملكها الدولة ؟ ماذا عن المرافق الاجتماعية والمدرسة والعائلة والتي كلها معاقل للتنشئة والضبط الاجتماعي ؟

هاذا يسوق إلى دراسة المخيال الاجتماعي للفلسطينيين والذي يتبدى من خلال دراسات عديدة أجريت أثر الصور الدلالية ( اللوجو ) لزي الشرطة على نفسية الفلسطيني ففي البعد النفسي للفلسطيني تتحول الشرطة والأمن الإسرائيلي إلى مُثير  سلبي وعليه فإن الأمن الإسرائيلي وشرطته وأجهزته المختلفة كلها مثيرات سلبية لا ثقة للفلسطيني فيها، ويصير خرقها خرقاً للاحتلال وإنصافا للقضية، وتوجهاً وطنياً  يرافقه راحة داخلية لمن يضرب بعرض الحائط القوانين كلها، فأي شرطة تود أن تحافظ على الأمن في قرية عربية وتحرق مخيمات كاملة على الجانب الآخر من الوطن ؟ هكذا يقول البعد الداخلي للفلسطينيين.

ولكن الأمن الاسرائيلي في ذات الوقت، يساهم في تنامي العنف، من خلال سياسة اللاتدخل، أو الوصول المتأخر، بحيث لا يتدخل طالما الموضوع مرتبط بالفلسطينيين وفي اللحظة التي يخرج فيها الأمر عن هذه الحدود حينها يكون للأمن والشرطة دور فاعل.

هذا ذاته يجري في المدارس، التي بدورها ترفع عالياً فوق أسوارها أعلام إسرائيل، وتضخ الثقافة العبرية على جرعات محدودة تتسرب شيئاً فشيئاً إلى رؤوس طلابها، لكنها هناك تصطدم بأفكار أخرى، لتتحول المدرسة لاحقاً إلى شيء لا يختلف عن أي مؤسسة من مؤسسات الاحتلال.

نصير هنا أمام نوعين من تآكل الضوابط، الضوابط الاجتماعية والقيمية باتجاه، والضوابط القانونية باتجاه آخر، وفي ظلهما تتفاقم وتضاف إليهما كل الأزمات اللاحقة من اقتصاد متدنٍ، وإجحاف سياسي، وتمييز متواطئ، أمام كل هذه المركبات يتحول الفلسطيني إلى جسد مُنهك خاوٍ ومُفرغ، عندها قد يصير للعنف آخر معاقل إنصاف الذات وآخر الأبواب المطروقة.

إلا أن هذا العنف، كان يجب أن يكون في  أساسه طاقة إيجابية رادعة، إلا أن نجاح اسرائيل في استدراج المجتمع من خلال آلياتها المختلفة، حدا بهذه الطاقة أن تنعكس سلباً لتأخذ منحى العنف الداخلي.

لن ينتهي العنف في الداخل، ولن تجد كل آليات الردع، ما لم تتخلى إسرائيل عن كونها دولة احتلال وما لم يفتح الفلسطيني أبوابة على  امتداده العربي ، بحيث يعيد ضخ دم جديد، يكون قادراً على إحياء كل المنظومات الاجتماعية من جديد، وعلى انفتاح يعيد له ما فقده خلال ثلاثة وستين عام.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق