الخميس، 9 يونيو 2011

عن الفلسطيني الذي لن يبقى


عن الفلسطيني الذي لن يبقى



فادي عاصلة

لا بد وأن ثلاث وستين عاماً هي كفيلة وكافية بأن يعيد فلسطينيو الداخل قراءة وتحليل تجربتهم السياسية في محاولة استشفاف المرحلة القادمة ومحاولة لتفادي أخطاء سابقة، وإن كان هذا برمته موضوع إشكال كبير يبقى واجباً حتمياً لئلاً تتسع القطيعة فلا يشد البعض بعضه.

تعد السنوات الأخيرة هي الحاضن لأكبر عدد من القوانين الإسرائيلية العنصرية اتجاه  الشريحة الفلسطينية، وهو ما يجب أن يكون المدخل للمراجعة الذاتية والنقدية. يجب التساؤل لماذا تمضي إسرائيل في قوننة وشرعنة عنصريتها ؟ وأين دور فلسطيني الداخل ؟ وكيف يكون الرد في مواجهة هذه القوانين، وما هي آليات الرد والردع ؟

كما يجب أن يعترف فلسطينيو الداخل بأنهم وقعوا في شرك المؤسساتية والتأطير وأنهم أمعنوا في الاستخفاف بالشراك والفخاخ المنصوبة حتى تكبلوا فيها، وحتى باتت الأطر تضيق على أصحابها.

قد يكون من الإجحاف ظلمهم على حيازتهم الهوية والجنسية الإسرائيلية كونها كانت حتمية فرضتها دولة الاحتلال الوليدة وكانت الباب الأخير للبقاء، لكن من الظاهر أن أبواب البقاء تعددت وصار البقاء في وجهة البعض مصحوباً بالترف المعيشي المؤدلج بشراسة التوجه وعنف الخطاب ومئاله المُخيب في تآكل الهوية وإنهاك الوعي.

كانت الأحزاب في الصدارة كحركات اجتماعية بنت ذاتها ضمن خطاب سياسي يسعى لتحقيق طموحاته، كما الجمعيات والمؤسسات التي نظمت ذاتها لتصير معقلاً لرغبات متزامنة، في موازاة المدارس وباقي الأطر والعُلب الأخرى. لكن ما يجمعها كلها، أنها تشتغل ضمن دائرة المجال الإسرائيلي وبالتالي فكلها خاضعة لمحددات أساسية قد تكون منطوقة وقد تكون إشارية، تحمل في داخلها الاعتراف بالشرعية الإسرائيلية والاعتراف بالبنية المؤسساتية الإسرائيلية، وكلها في النهاية معززة للخطاب الإسرائيلي، وما يعزز الخطاب الإسرائيلي يرتد على معززيه بتمادي أكثر وإمعان في " قصقصة " الأطراف ،هنا توقع الجمعيات العثمانية على مواثيق احترام القوانين الإسرائيلية كما يقسم أعضاء الكنيست العرب قسم الولاء كما لا يخرج مدير أي مؤسسة عن محددات أساسية تتفاعل في المحددات الذاتوية للفرد الفاعل ضمن رقابة ذاتية قد تكون أشد قسوة وإرغاماً، ليتحول المجتمع المدني إلى مجتمع منضوٍ ضمن دائرة المشروع الإسرائيلي دون وعي ورغبة على غرار المثل القائل : " الطريق إلى الجحيم معبد بالنوايا الحسنة ".

سيخيب ظن من يعتقد أن بالإمكان الحفاظ على الهوية الفلسطينية في الداخل من خلال الأطر والمؤسسات والجمعيات، وإذا كان كارل بوبر نبه إلى مفهوم المجتمع المفتوح الذي ينبلج رتاجه عن ثقافات تتداخل لتعيد تشكيل الثقافة الأم، فإن فلسطيني الداخل ليسوا أمام مجتمع مفتوح  بقدر ما هو مجتمع مُشَّرع يُعاد تشكيله وتأسيسه وتغيير مفاهيمه ومرجعياته ورموزه.

إن مشروع الإدماج الذي تقوم به إسرائيل بحق الفلسطينيين قد ابتدأ في مؤسسات ومرافق حكومية كالمصرف والبريد ثم لاحقاً في الكنيست الإسرائيلي وحق تأسيس الجمعيات ولكنها لن تتوقف هنا بل السعي الإسرائيلي هو نحو الانتقال من مرحلة التداخل نحو التناسق مروراً بالاندماج وصولاً إلى حالة الانصهار الكامل، من هنا يمكن فهم رفض السلطات الإسرائيلية الترخيص لحركة الأرض وإخراجها عن القانون، ومن هنا يمكن فهم مشروع الدو كيوم الاسرائيلي ( مشروع التعايش ).

ما حاولته حركة الأرض هي أن توفق بين وجودها في إسرائيل وبين انتمائها القومي، وبالتالي حاولت أن تمد خيوطها بالاتجاهين، وهو ما يتناقض مع المشروع الاسرائيلي القاضي بتقنين الحركات السياسية والاجتماعية ضمن أُطر داخل المؤسسات الاسرائيلية بحيث تكون خاضعة لها وجزءاً من بنيتها.

تحول الفلسطينيين في الداخل إلى شأن إسرائيلي بحت ( كان هذا ضمن تفاهمات أوسلو )، وتقطعت الأوصال بينهم وبين امتدادهم القومي والوطني والديني، مما ساهم في شرذمة الهوية وخلق حالة من الاغتراب المزري المخيف والذي حمل بدوره آفات اجتماعية وتفكك مقلق للغاية.

في الاتجاه السياسي كان الوضع أكثر سوءاً، حالة من اضطراب الخطاب السياسي للأحزاب العربية، حالة من البلبلة والغموض وغياب الأفق والمشروع وهو ما يتجلى في الأحزاب التي لم تستطع حتى اليوم أن تكون قادرة على المبادرة، حين تحول مشروعها إلى مشروع دفاعي خائب، وليس مشروع هجومي ناهض يتطلع إلى رأب الصدع وإعادة بناء هوية تضرب بعرض الحائط  كل المؤسساتية الإسرائيلية وكل البنية المُشكلة لها ومنها.

تحول يوم الأرض إلى انتصار للجماهير الفلسطينية في الداخل، ليصير يوماً عالمياً، لكن ما من أحد تساءل أين مكمن الانتصار فيه ؟ وإذا كانت الأمور بخواتمها فلا يمكن أن نقول بأن خاتمة يوم الأرض هي أرض رقم 9 التي أعيدت لأصحابها، بل كل أرض محتلة، لقد صودرت بعد يوم الأرض عشرات ومئات الآلاف من الدونمات في سخنين وشفاعمر في النقب والمثلث، لم يسقط عندها شهداء، ولم تثار ضجة مثلما كان في يوم الأرض الأول، فهل استوعبت إسرائيل الدرس أم الفلسطينيين ؟ يبقى سؤالاً معلقاً من انتصر في يوم الأرض إذاً ؟ وهل القضية قضية اليوم ذاته أم قضية الفكرة المنبثقة فيه المتجاوزة للحاجز الزمني ؟

لا لن يبقَ فلسطيني بعد اليوم، طالما الحالة كما هي، طالما الأحزاب تمتص غضب جماهيرها وتتحول إلى أداة سلطوية لإعادة التنظيم الاجتماعي المتسق مع التطلعات الإسرائيلية، وطالما الجمعيات ومؤسسات المجتمع المدني تعيد تشكيل ذواتها مجرورة بمصادر التمويل خاضعة وراضية بموقعها المُعد مسبقاً، وطالما الهوية الفلسطينية في تراجع مستمر.

لا لن يبقَ فلسطيني بعد اليوم، لأن تسرب الهويات الأخرى بات يستحوذ على الهوية الأم، وإذا كانت الثقافة هي مزيج العادات والتقاليد والمعتقدات والحرف والفولكلور وأنماط الحياة والمنتجات المادية والعمران، فيمكن فهم مدى التدخل الإسرائيلي في كل مركبات الثقافة ومجالاتها الأمر الذي ينذر ويبشر بالخطر الداهم.

لقد أزف الوقت، وصار من الواجب مراجعة الذات وإعادة بناء الهوية الفلسطينية ضمن مجالات منفتحة على الحيز العربي وعلى الامتداد الوطني والثقافي الطبيعي دون الخضوع للمأسسة الإسرائيلية التي قد تعيد الدورة إلى بدايتها.

تجربتين لم يستفد الفلسطيني في الداخل منهما، تجربة حركة الأرض، وتجربة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، في تجربة حركة الأرض تكمن الرؤية الإسرائيلية لأي حزب يحاول إدماج ذاته ضمن مشروع عربي حقيقي يفتش عن هويته، وبالتالي  تم إخراج الحركة عن القانون وحلها، وعليه فإن الأحزاب في الداخل تعلمت الدرس مقلوباً، وصارت كل خطاباتها خطابات محببة لإسرائيل طالما أنها ضمن الجدل الدائر في إسرائيل، من هنا فلا ضير لإسرائيل شعارات المساواة والديمقراطية أو دولة جميع المواطنين طالما هي قضايا سياسية داخلية باتت تقنن وصراعها دائر في أروقة الكنيست والمؤسسات الأخرى، بمعنى أنها ساهمت في صناعة القطيعة بين الفلسطينيين وكل ما هو خروج حدود دولة الاحتلال الوليدة.

وقعت الأحزاب العربية كوقوع الفكر العربي في عصر النهضة بين حدي – التلفيق والتوفيق، فحزب يعيد ترتيب إنتاج النظرية الشيوعية برمتها مُدخلاً كل عناصر التبرير الأيديولوجي مستحثاً التأويل حتى جذور انفضاض المعنى ليعيد ترتيب الواقع كما ترتئيه البراغماتية الصرفة في ذروة عريها، وحزب آخر يخلط القومية بالمواطنة الإسرائيلية ملفقاً شكلاً جينياً تعجز عنه المخابر البيولوجية لكي يوفق بين نقيضين.

في تجربة اللاجئين الفلسطينيين في لبنان مثالٌ آخر، وهو مثال شاهد على آلية الدولة في صد شرائح اجتماعية لا ترغب بتوطينها، وبالتالي فإن كل المعاناة والمآسي والتمييز الذي حل بهم، كان محفزاً على أن تبقى قضية الوطن في أعلى سلم الاهتمام، كان التمييز كفيلاً بأن يجعلهم يروون أبعاد الاختلاف فيهم، رغم الروابط اللغوية والفكرية والتاريخية والجغرافية، وهو ما بدوره ما يشعل ويأجج فتيل الرغبة والتصميم على عدم الاندماج وعلى بناء وطنهم بعد طول انتظار.

إن ما تقوم به إسرائيل  مع الفلسطينيين في الداخل هو وظيفية جديدة بتعبير الباحث السياسي البريطاني دايفد ميتراني ( التي هي أساس فكرة الاتحاد الأوروبي )، فاسرائيل بدأت علاقتها مع الفلسطينيين بعد 67، بتدرج وظيفي جديد، تدرج يبدأ من النقاط الأقل خلافاً ويكون مبنياً على المنفعية، ثم يتدرج إلى قضايا أخرى وأخرى وصولاً إلى التكامل فالانداج والانصهار، هكذا بدأ الفلسطينيون ضمن المؤسسات وضمن حالة من الانسيابية واللاردع التي تعززها الأحزاب والحركات وتعتبرها إنجازات أسطورية على وقعها كانت الهوية تنتقل وتتصدع.

لن يبقى فلسطينيين في الداخل، إذا لم ينفتحوا على العالم العربي، وإذا لم يناضلوا لأن يكون جزءاً من الحراك العربي، وأن يضعوا حداً لمهزلة المواطنة والمساواة وحداً لكون الفلسطيني هو قضية داخلية في الصراع الاسرائيلي بل يجب أن يعيد فلسطينيو الداخل قضيتهم إلى مصافي القضايا العربية وأن يكون لهم حضورهم على الساحة العربية منسحبين من أي إطار يربطهم بدولة بنت ذاتها فوق عظام أسلافهم وإخوانهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق