الأربعاء، 25 يوليو 2012

سيرة خائب


سيرة خائب...


1



كان هذا قبل أن يشتد السؤال، وينتفض التيه، قبل أن تشتعل الألوان، أو تزغرد الأصوات، أو ينتشي الاختلاف ليعلمه الفارق بين الشيء وليسه، ويسخر المعنى من كل لفظ .

لم نكن فتية ولم يكن دوقيانوسَ من خلفنا، كنا قبل أن يكونوا أو نكون.

كنت أصغي للمسافة تقترب مني، تصفعني، تغتال الخطى فيَّ، تشد بضيقها فلا أرى أين المسير إذا انفجرت فيَّ الحدود، وقد رأيتني ألين مع كل فجر، تَسُللُ الضوء من ثنايا قمقم يلغي ميلاد الرغبة، فأقول غداً قد يكون.

بين صخر أصم تناثر، لحم وعظم ودم، وقيء، وبصاق، ولهاث،وحلم يلامس المخيلة ليرى غير ما يود أن أرى، أو غير ما تشتهي الأشياء أن يرى.

لا بد من مخرج كان قول، لا بد من إطار غير الإطار، لغة غير اللغة، لا بد من شيء آخر  كذرى سرمدية تفتق شرايين العزم حتى مغيب الضوء مرة أخرى.

أنا وإن طفح الكيل بناظريَّ عاجز حتى تكتمل الشروط، لكني أقسم بما يقهرني أن أستوفي حاجتي وأهب نحو السؤال على فظاظة الجواب وعنف الحقيقة، إذا كانت.

وجوه ،إشارات، ضيق على ضيق، في البدء كنت أنا . في البدء لم يكن سواي.



**********



أربعة جدران ، منعطفات وانحناءات والتواءات، دودة تمر دون أن تعير الوجود اهتماماً، مطر يتساقط من سقف صخري،ضوء في البعيد يضيء ويغيب، يغيب ويضيء، عصافير تلقي بزقزقتها وتسكن.شخوص تأتي لتمض.

هنا تفتحت فصول الحياة، طفل كان يشب على أسئلة تحرج الكبار ولا تحرجه، أغاني تغلي في داخله ومعانٍ لا تنضج مثل صخر تغليه امرأة لأبنائها وليس بفاروق هنا ليحسم الموقف، أنا طفلها الأخير، صبيها الأخير، شوق جائع لكسرة خبز، وحنين ملهوف لمجير.

تدنو مني تدانيني، تقول أن العمر منقضٍ، تقبض حكايتين وتهوي باستفهامها علي. لم يبرح الزمان ظفري لم يشتد العود بقدر الوجود. قال قائل : " ما كانوا سوى ظلين كُسرت الشمس ذات يوماً فاختفوا ".



**********

من بيت أبي الخليل إلى سروة على منعطف حارة، هناك تعلم اسمه، وهناك فارق غيمة كانت تستهوي الريح لتمضي في غرور حملها، حقلين من السمسم ورمانة تطل من سور حديقتها. لن يرتضيك هذا الزمان بطلاً متأخرا.

سير خفيف ،شارع الجبل لا يعود منه إلا الغريب، الكل ذاهب إلى مستقره، لا شيء يشبه القلب سوى محطات السفر، لا شيء يشبه القلب سوى الواحات يعبرها الراحلون ولا أحد يقيم.

هذه صحراؤك فتعلم لغة السيوف وخذ لباسك من الظأن، اشرب لبنة التفاصيل وألبانها ولبانها وعلم يراعك كيف يشتد اليراع، هو السفر إذا قفر لا يُطاع، وقد علمتك الصواري حكمة الضواري، لا يُشبع الزحف إلا الشراع.

مضى. كان الحصى يتكسر تحت رجليه، وعلى جانبي الطريق نبات شائك إذا أردت الاختلاف سبيلا، لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه، تذكره الفقيه وما تذكر، هي غواية الغيب واستلاب النظر، مضى يتقافز بين الحفر، لم تكن قال قائل : لم تكن عيناً قبل الأثر.

**********



شارع الجبل لا يعود منه إلا الغريب، وبيت أبي الخليل. نسَّاج يحيك الليل كي لا ينفد إلى صدره لهاث خفيف، أدركه السعال فنفث هواء تبخر في خروجه ليتطاير دوائر ملتوية تعلن وقف المدى وانكسار الهتاف.

عدلت من جلستها قبل أن تنظر في وجهه، كانت تراقب دوي نظراته، قلقه، ارتباكه، وحقيبته الصغيرة. كانت تتعلمه في آخر مجالات العبارة، في نشور المجاز، والتقاء الاستعارة، كانت تراقص لوحاته، كانت ترسل شعرها قصفة زيتون والطوفان يلتهم الحياة ويتجشم، كانت تزغرد قبل أن يودع الجثمان في غياهب شكل آخر، كانت تنتفض، كان يهتف، كانت تصرخ، كان يزحف، كانت تغني، كان يرتل، كانت تهوي، كان يتجلى، كانت. لم يكن.



**********

الحياة، الموت، وهو، بين حدين كان، يرقب حياته وموته، كان ينظر من حاجز شفاف كطفل يرتب أمنياته خلف زجاج حانوت، كان ينظر إلى تفاصيله، إلى اشتعاله وخبوه، اضطراب في جوفه، كنمل يسري فيه، يتحرك، يضطرب، يتلوى، يخرج من فمه غبار كثيف، يخرج حصاً وكلاماً وأغنيات وصلاوات وتغاريد، يخدش الزجاج بيديه كي يخرج من الثنائيات كي يحيا أو يموت، يمشي بينهما وليس بصراط تحته كي يهوي إلى أحد الجانبين، انهار ثقل القيم فلم ينصفه من الثقل شيئا، كان الطريق يقتلعه كنبتة. كأصول بقل، ونخل أبي العلاء أقصر، كان يسرج اغتراب غيابه، واهتراء جرابه، وتذكرها فجأة، وتذكرهم جميعاً، وتذكر أنه ... لم يكن ذات يوم يتذكر ...!



**********

لم يكن يود أن يقول شيء، لم يكن يود أن يقول كل ما قيل، لم يكن يريد أن يحكي عن الأصدقاء الذين لم يراهم من سنين، أو عن الغربة التي وصلت إلى قاع جوفه، أو عن المرارة التي يحسها في داخله مع كل زفير، لم يكن يريد أن يحكي عن شوقه للبلاد التي لم يغب أصلاً عنها، لم يكني يود أن يحكي كما هو مشتاق لأن يسمعه في هذا الوجود شخص واحد فقط، وأن يعود ليحكي بلسانه كما كان سابقاً، حين نسي متى كانت آخر مرة استخدم الكلام فيها وسيلة للتخاطب، لم يكن يريد أن يعترف كم هو مشتاق لأمسه، وأصدقاء أمسه، وكتب أمسه، وجيران أمسه، وبيت أمسه، ودروس أمسه، وأحلام أمسه، وخيبات أمسه.

 كل ما أراده أن يحدق بسخرية حتى يموت، أن ينظر إلى هذا العبث ويضحك، يضحك حتى تحفر الدموع خندقاً في مآقيها، حتى ينبلج العبث عن ذروة الانتهاء، حتى يسفر في امتطاء ظله، حتى ترد الإبل رمشه، لتحدق في مصابها ومصيبها، حتى يقفز الطفل جلاداً فوق صليبها، حتى يرتجف إبراهيم برداً في لهيبها، وحتى تعود القوافل عن مَغيبها ومُغيبها.





 كان يتذوقها، يحفظ شكلها، طولها وعنفها، تضاريس جسدها، منحنيات صدرها، ايماءات وجهها، انبهارها، وانهيارها، وانتصارها، نبرة صوتها، بحتها، لهاثها، ارتجاج حنجرتها،  لغة عيناها، معانيها وتأويلها، كان يود أن يقول شيء، لكن القارب لا يتسع لكليهما، والرقم لا يغير من حكمة المسار شيئاً.

ظلال كانوا، وكانت. أسماء تمضي وتروح، شمس تخفي ظلمتها، ربيع يكشف عن شتاء قاسٍ، عشق يختبأ الرحيل في جوفه، ابتسامة يتسلل الرعب فيها، جدران جوفاء، صخر  كعهن منفوش، كان الكل ولم يكن.

وحدها كانت دودة تمضي بجانبه لا تعير الوجود اهتماماً، تذكر أنه  لا يخاف أن يتذكر ، لكنه مذ اليوم لن يتذكر.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق