الاثنين، 29 أغسطس 2011

أزف الوقت

أزف الوقت

فادي عاصلة


أزف الوقت

لم يبقَ إلا صدى المكان

والخواء الذي يضج فيك

وأضغاث أحلام . .

عارٍ من شخوص تلتهم  سُبل التذكر .. .

خلف المنعطف لم يبقَ أحد

لا تلويح بالأيدي

ولا سلام

نظرت للخلف

لم يكن إلا حقائب من سني

وسرب من الحسرات

وبضع أوهام

رأيت وحدتك تستفز ظلك المصلوب

ورأيت الظلام يشد الظلام

وتذكرتك دونهم

وتذكرت أن : الإنسان وقتٌ.

وأن قلبك لا ينام



أزفت الوقت

والشوارع تعرفك، أكثر

والخطى تستفز الأمام

والخلف يحبو وأنت تحبو .. والعمر يحبو . .

ولا شيء فيك إلا كلام

إلا رموز وصور

زمان يتسرب في الغمام

يرتب ألوان المقول

يشذب إمكان الحصول

ويطلق من الطوفان الحمام

لن يرجع قال قلبك

وابتسم المدى

ليشكل شكلاً للردى في ابتسام

ورأيت الغرق على شفا جرفٍ

ورأيت أغصان النجاة سهام

تشطر القلب شطرين

تنزع الضلوع

تزرع الزؤام

قد كنت القاتل والقتيل

فمن فيك يُلام ؟



أزف الوقت

وقد شل أوصالك الانتظار

لم يأت أحد من خلف نسيانه

ليذكر وصالاً مُدام

وسكينهم يمتصك

يتسرب وجه الحقد

من ريح زيفٍ في المسام

وغلو أخير في العبث

ليفض خلل الالتئام

وليكتب نهاية في الحكايات المشوهة

ويرتب التمام

قد يُذكر الفرس فارسه

وقد تذكر النوق دليلها

إلا الأنام

تنسى، والإنسان نسَّاء

يكيل وبالنقيض يُسام  . .

فهل كنت من الكرام على موائد اللئام

أم  النقيض، أم القريض .دون الجريض .. 

ما أقسى أن تكون القاضي والمقضي

ما أقسى الاحتكام



أزفت الوقت .. قلت

لا يا صاح

ما أزف إلا المقام . .

الخميس، 11 أغسطس 2011

الوحي


الوحي



أنت لم تكن شيئاً

لكنك كفرت بوعيهم

فصرت آلهاً

يربي الوصايا

وينثر الغمام ...

كنت تستطيع أن تبقي أوراقك

دون أن تبعثر المدى وتلقي المكاتيب ...

لكنك استعجلت صوت الوحي فيك

وتناديت إلى الوجيب

مشعلاً نار إبراهيم فيك ...

معتلياً ظهر الصليب ...



فادي عاصلة

الجمعة، 5 أغسطس 2011

عاصفة

عــــــــــاصـــــــــفــــــــة


 فادي عاصلة
ترسم عاصفة
تجرف الموت ...
تلقي بجديلة شعرها بين يدي ...
أسرح فجوة الليلك في انعطاف الخطى
أقاسم المواسم خيبتَّي ...
تلم الشوارع كلها ...
ولا يسعفني التشرد ...
إذا اختنق اللوز بين حدقتي ...



جنت ولم تعرف كيف تولد الاغنيات ...
لأن الرتم يسري على وقع الهويات ...


ترسم عاصفة ...
وترسمني ...
كأني أيقونة ...
تتوسل النهوض قبضتي ...
آت على صهوة الجرح ...
وسيف على وقع الرمل يهوي ...
ستعلم البيداء كيف يستجار الدخيل ...
ستعلم البيداء كيف تشعل النار في ليل الضليل ...
ولا أرى في ردة الحرف إلا الحرف في
سآتي بعد استنزاف ذاكرتي ...
كي لا يكون إلا الحقد بين وجنتي ...
سآتي كي اراها ... أو اراكم ...
مثلما غادرت اسطورتي ....
مني إلي ...

أنا لا أرى بالعواصم إلا ساحتي ...
بيداء ستشرق على مهد حضارتنا ...
حكاية السيف والرمح والخيام ...
حكاية العطشى والنيام ...
حكاية القوافل الضليلة ...
حكاية السهر والخمر والثمر ...
حكايه الفرسان ... والجياد الأصيلة ...
حكاية المضارب والمحارب ...
حكاية الحكايات الجميلة ...
ستشرق البيداء ...
ستشرق ليالي السمر الطويلة ...
ستشرق على ركام عواصمكم التافهة ...
أنوار القبيلة ...

الأربعاء، 3 أغسطس 2011

ماذا بقي من معطف غوغول


ماذا بقي من معطف غوغول


فادي عاصلة


ما أن يُذكر الادب الروسي، حتى يتبادر إلى الذهن مباشرة نيقولاي غوغول ( 1809 – 1852 )، مُدشن الرواية الروسية، وأحد رائدي الأدب الروسي، وإن قال دوستوفسكي : اننا خرجنا جميعاً من معطف غوغول "، فالبعض ذهب إلى أكثر من ذلك كنيقولاي تشرنشيفسكي الذي قال : "   منذ زمن بعيد لم يشهد العالم كاتباً مهماً لشعبه كأهمية غوغول للشعب الروسي... لقد قال لنا مَنْ نحن، وماذا ينقصنا ، وإلى أي شيء ينبغي أن نصبو، ومما ننفر، وماذا نحب. وحياته كلها كانت كفاحاً متحمساً ضد الجهل والفظاظة... كانت كلها منذورة لغاية - فكرة لاهبة ثابتة، وهي العمل على خير وطنه".

غوغول وفي سائر إنتاجه الأدبي رسالة إنسانية لم يفتأ يصدح به، منادية برفع الظلم والإجحاف عن الطبقات المسحوقة، وإعادة الاعتبار للمواطن والمجتمع في ظل استشراء النظام الجديد الذي يفرغ الإنسان من مضمونه ويحوله إلى آلة مفرغة من قيمها الإنسانية، كما نادى مبكراً بضرورة إنقاذ المجتمع الروسي الذي داهمه وباء الإقطاع حيث أجاد تمزيقه وتحويله إلى فئات متناحرة.

في قصة المعطف والتي كتبها غوغول عام 1842 حين كان عمره ثلاثة وثلاثين ربيعاً،. تظهر منهجية غوغول واضحة للعيان، منهجية واقعية ملتحمة بتفاصيل الحياة والوجود دون أن تلغي الفانتازيا أو تستحوذ مكانها. بحيث برزت منهجيته النقدية من خلال الرسائل الثاوية في طيات نتاجه الأدبي. يومها أثارت الرواية زخماً ونقاشاً حقيقياً حيث عززت أدبية غوغول الذي بدأ يتحول إلى أهم وجوه الأدب الروسي

القصة كقصة يمكن اختزالها ببساطة أنها تحكي قصة موظف فقير يعمل كناسخ في إحدى الدوائر الحكومية، إلا أن معطفه يتلف، فيبدأ صراعه لتوفير ثمن معطف وبعد توفير المبلغ وتفصيله وشراءه، يسرق المعطف من هذا الموظف، الذي لا تسعفه لا الشرطة ولا الشخصيات الهامة ( المحسوبيات ) في استرداده، فيموت لاحقاً إلا أن شبحه يبدأ بالظهور ليختفي بعد أن يسرق معطف أحد الأغنياء من الشخصيات الهامة ممن كانوا قد استهزئوا به سابقاً.

إذاً نحن أمام قصة يمكن تلخيصها بسرقة معطف، لكن قيمة قصة المعطف هي في قدرتها على توليد كل ذاك الزخم الإنساني وعلى نبش جوهره، ففي المعطف لا يذكر غوغول في أية دائرة يعمل هذا الموظف البسيط " أكاكي " فهو يؤكد ألا أهمية للدائرة، لا يهم لأن الدائرة تنسحب على كل الدوائر، فيما أكاكي الذي ينسخ، سيتحول إلى آلة ينسخ كل شيء، حتى في بعض الأحيان يقوم بنسخ أوراق مرتين إذا لم يجد ما ينسخه، هذه هي حالة الإنسان حين يتحول إلى آلة وإلى أداة ليس من المطلوب منها أن تبدع وتبتكر بقدر ما هو مطلوب منها أن تقوم بعمل محدد كماكنة.

" دعوني، لماذا تسيئون إلي " ( المعطف، ص 11 )، هي رسالة هذا الإنسان، رسالة الإنسان البسيط حين يرفض التورط في صراعات الآخرين، وحين لا يرغب الدخول في المناوشات الجماعية التي تدور حوله، بحيث يتحول صوته إلى نبرة تثير الإشفاق، لكنه يرتجف لمَّا يرى : " ما أكثر اللاإنساني في الإنسان " ( المعطف، ص 12 ).

وبالتالي فإن الفقراء كأكاكي يستنفذون كل إمكانيات الإصلاح، وفي النهاية حين لم يعد المعطف يجدي، تبدأ عملية المعدمين في توفير حاجياتهم، فمجرد توفير ثمن معطف لزم أن يقتصد في استهلاك وجباته اليومية والاستغناء عن بعضٍ منها، بحيث أن أمنيات لا تتعدى أن تكون حاجيات أساسية للمعيش.

إلا أنه في النهاية يخسر المعطف إذ يسرق منه، لأن الفقراء لا يجيدون حماية أنفسهم، ولا يجدون أيضاً من يحميهم، فالشرطة تقف مكتوفة الأيدي، فقط من يملك علاقة مع شخصيات هامة، هو من يستطيع حل مشاكله. وهي بدورها الشخصيات الهامة لن تسع لمساعدة المعدمين، بل تستلذ في صهرهم وقهرهم، إذ يعجب : " ويثمل بفكرة أن كلمته تستطيع تجريد الإنسان حواسه " ( المعطف، ص 70 ).

لما يموت أكاكي بسبب الحمى وبرودة الرياح في بطرسبورغ، يظهر شبحه في الشوارع، يمشي هائماً ويفتش عن معطفه ويدقق في معاطف الآخرين. حتى يسرق الشبح معطف الشخصية الهامة، الذي يفزع ويعود مرتجفاً،  بعدها تنتهي قضية الشائعات التي تتحدث عن ظهور الشبح، فيبدو أنه استراح في موته.

إن الشخصية الهامة هي رمز لا ينتمي لوظيفة بقدر ما هي منصب يتخفى وراءه الشخوص على اختلاف تسمياتهم، ولن يكون من المجدي الإيمان بصلاح وفق ما يرتئي غوغول حين يقول عن الشخصية الهامة : " فإن قلبه كان وراء كثير من الأعمال الطيبة، بالرغم من أن المنصب كان كثيراً ما يعرقل ظهورها " ( المعطف، ص78 )، هي إذاً رسالة فلسفية  مطروحة، أن المنصب له الأثر العميق في صياغة الذات الإنسانية وهي ما يمكن مقاربتها مع رؤية ميشال فوكو الفيلسوف الفرنسي حين يتحدث عن المؤسسات بأن منهج الخطاب : " يخضَع ويُخضع في ذات الوقت " وبالتالي فإن المنصب دوماً سيفرض سلطته ولن يستطيع الفرد الفاعل أن يتخلص منه، إذاً فالحل ليس في الشخوص بقدر ما هو هيكلة للبنية الأخلاقية الممُأسسة للبنية المؤسساتية.

لم يكن معطف غوغول، هو معطف يرد البرد، بقدر ما كان معطفاً يحيل إلى الغطاء الإنساني الذي يجب أن يبقى موجوداً ليحتمي به فقراء المجتمعات من ريح التطور الإنساني وفرط التبدلات الاجتماعية التي تخلق شرائح تتغذى على بعضها.

إن رسالة غوغول كانت رسالة غاية في الإبداع، في تصويره للفقراء يعودون من موتهم لينتقموا لأنفسهم، ألم تكن هي ذاتها روح غوغول حين استثمرت من جديد هو ونخبة الأدباء الروس وعلى رأسهم بوشكين في الثورة البلشفية في روسيا ؟
ولكن السؤال يدوي من جديد، وفي ظل حضارتنا المعاصرة، في واقع مختل استشرت فيه العولمة وأبدعت الرأسمالية النهمة في الخروج من كل مآزقها عافية مسالمة، وفي ظل صهر للإنسان البسيطة وهيكلة للعالم وصهر للثقافات وترسيم جديد لحدود متجاوزة للجغرافية، وفي عالم باتت ترسمه وسائل الإعلام، بتحالف مع الشركات والمؤسسات، على وقع كل ذلك يتبادر سؤال قديم جديد :  هل بقي للفقراء من معطف يحميهم؟ ماذا بقي من معطف غوغول ؟

قصة المعطف لنيقولاي غوغول، مكتبة ومطبعة السروجي، عكا  - فلسطين، الطبعة الأولى 1980، ترجمة خليل كمال الدين، 85 صفحة من القطع الصغير


الثلاثاء، 2 أغسطس 2011

بساتين السالمي ونساءها


بساتين السالمي ونساءها



فادي عاصلة

ربما تكون رواية البساتين لحبيب السالمي من الروايات العربية القليلة التي حاولت أن تخترق البنية الاجتماعية بجرأة واضحة محاولة تعرية التناقض المرير المدوي في داخلة الإنسان العربي المسلم في تفاصيل الحياة العصرية، وإذا كان السالمي قد قدم في روايته زاوية موترة لحفيظة الكثيرين، فإنه أثار جدلاً حقيقياً انتقل من ميدان الفكر والفلسفة نحو ميدان الرواية.

السالمي قدم هذه المرة صورة حية من داخل المجتمع، من خلال روايته التي تحكي قصة شاب تونسي يعيش في فرنسا ومتزوج من فرنسية، يعود إلى تونس العاصمة، بعد غياب دام خمس سنين، ويقيم في بيت أخيه ابراهيم لمدة تسعة عشر يوماً، ليجد أن زوجته قد تحجبت، وأن أخاه بات يصلي هو وابنه كل يوم جمعة في الجامع.

في خلال الأيام المتتالية ستتطور الأحداث تبدأ باللقاء الأول حين يرى  أن زوجة أخيه تلبس الحجاب ومن تحت تلبس الملابس العصرية في تناقض لافت، كما يرى أخاه يترك صلاة الجمعة ليقضي وقته مع بائعة هوى، ثم يلتقي ليلى أخت يسرى زوجة ابراهيم، والتي تدعوه إلى بيتها ليمارس الجنس معها.

في المقابل يزورهم أخاه البشير وزوجته عائشة، يحكي له البشير عن انتمائه لحزب التجمع، وعن الرشى التي يقدمها ليتدرج في المناصب، وعن الأوامر التي تأتي من فوق لتصير الضرائب المفروضة عليه خمسة ملايين بعد أن كانت عشرين مليون، وعن السيارة التي اشتراها ثم لم يتمكن من الحج الذي يقرر تأجيله وعن تفضيل السيارة على الفروض.

في موازاة ذلك يقوم أخاه ابراهيم، الذي مارس الجنس مع بائعة هوى، بالاتصال بالشرطة، كي تعتقل جارته نعيمة، بحجة أنها تأوي رجالاً في بيتها، وأن سمعتها تجلب العار للعمارة بأكملها.

كل هذه التناقضات التي يثيرها السالمي، بموازاة الحالات الاجتماعية التي يمر عنها، كالفتية المتسكعين بالشارع، وعن المواخير ونساءها، وعن تطلعات الشباب للهجرة، وعن هواجس الحياة اليومية والأبواب المغلقة، كلها تلقي الضوء على هذا الفضاء الاجتماعي المتردد المتناقض.

هل تغير شيء بعد الثورة التونسية ؟ من المبكر الإجابة عن هذا السؤال، لكن من المؤكد أنه لا يمكن الفصل بين الواقع الاجتماعي المطروح في الرواية وبين الثورة ذاتها، ثمة علاقة متينة، فمثل هذه الظروف الاجتماعية المطروحة في الرواية هي أرضية خصبة لإنتاج الثورات.

لم يحاول السالمي أن يحمل أسلوبية متفردة، كما أنه لم يحاول الاقتراب من الشاعرية السردية بقدر ما كانت لغة الرواية مندمجة في تفاصيل الحياة اليومية ومستواها اللغوي، إلا أنه لم يستطع إلا أن يكون الراوي وأن يكون بطل القصة بحيث لا يمكن الفصل بينهما ليحمل ذاك الأثر النفسي الذي يتحرك داخله السالمي، فاختياره ضمير الأنا كان يحمل في جوفه دلالات الاندماج بينه وبين البطل، دلالات الانسجام و " الكينونة " في التوجهات والأفكار وبذلك زال الفاصل بينه وبين الفاعل الأساسي في الرواية.

لم يقدم السالمي في روايته من جديد، ومن الواضح أنه لم يسعَ لذلك، كما لم يسعَ إلى تشويق مفتعل، أو إلى خلق توترات داخل النص بقدر ما حاول أن ينقل زاوية محددة داخل الواقع الاجتماعي، ويظهر نجاحه في ذلك بحيث تحاول الرواية فعلاً الاقتراب من الواقع قدر المستطاع، هي المفارقات إذاً التي تخلق التوترات داخل الرواية، إنه يلجأ إلا التناقض في داخلنا ليوترنا من خلاله.

تبقى التغيرات الاجتماعية الأخيرة، التي من المؤكد أن الثورة بدأت تخلقها، هي من المتغير الذي سيعيد ترتيب الأوراق والتوجهات الأيدلوجية والفكرية والثقافية التونسية خاصة والعربية عامة، إلا أنه لا يمكن تجاوز أن التراكمات الثورية هذه قد بدأت هناك من عيون شاخصة وملاحظة وواعية لما يجري على الأرض، وبالتالي فإن رواية السالمي حقيقة هي إحداها بحيث  يمكن اعتبارها من الروايات التي أثارت الحفيظة الاجتماعية لإعادة التفكير في ذاتها.

ماذا بعد الثورة التونسية ؟ لا يمكن التنبؤ بما سيؤول إليه الواقع الاجتماعي الجديد، لكن من المؤكد أن بساتين السالمي وتغيرت، ونساءها تغيرت، والفتية المتسكعون تغيروا، أمام تغيرات اجتماعية جديدة فرضتها الثورة، ولكن الراوية تبقى ذاكرة حية لمجتمع هزم تناقضه أو يحاول.



رواية نساء البساتين، للحبيب السالمي، دار الآداب  - بيروت، الطبعة الأولى 2010، عدد الصفحات : 207 من القطع المتوسط